باسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
" السحاب " الذي علّق بين السماء والأرض يسقي روضة الأرض سقياً يتفجّرُ حكمةً ورحمة، ويُمد
سكنتها بالماء الباعث للحياة، ملطِّفاً به شدة الحرارة - أي شدة ضرام العيش -
ويدرك تواً أينما كانت الحاجة. ومع أن ذلك السحاب الثقيل الضخم يقوم بوظائف كثيرة
أمثال هذه، فإنه يختفي ويتبدد فوراً بعد أن ملأ أرجاء الجو. فتنسحب جميع أجزائه
لتخلد إلى الراحة، فيتوارى عن الأنظار دون أن يترك أثراً بمثل ظهور واختفاء الجيش
المنظم طبقاً لأوامر فورية. ولكن ما أن يتسلّم أمر " هيا لإنزال المطر " إلاّ ويجتمع ويملأ الجو في ساعة بل يغمره في دقائق، ويتهيأ
متأهباً كالجندي المنتظر أمر القائد!
ثم إن ذلك
السائح المتفكر، المعتاد على السياحة الفكرية، هتفت به " كرة الارض "
بلسان
حالها، قائلة: "
لِمَ
تجول في الهواء وتدور في أرجاء السماء والفضاء ؟ هلمّ إليّ لأعرّفك بالذي تبحث
عنه. تأمل فيما أزاول من وظائف. وأقرأ ما هو مكتوب في صحائفي " . فأخذ السائح ينظر، فيرى:أان
الارض - كالمولوي العاشق - تخط بحركتيها في أطراف ميدان الحشر الأعظم دائرة تحصل
بها الأيام والسنون والفصول.. وهي كسفينة ربانية عظيمة حاملة لأكثر من مائة ألف
نوع من أنواع ذوي الحياة مع جميع أرزاقها ومتطلباتها المعاشية، فتمخر عباب الفضاء
وتطوف في رحلة سياحية وتجوال حول الشمس بكمال الموازنة والانتظام الاتم.
ثم ينظر إلى
جوف البحر فيرى علاوة على لآلئه المشعة التي هي في غاية الجمال والزينة والإنتظام،
فإن إعاشة آلاف الحيوانات المتنوعة وإدارتها وتعيين مواليدها ووفياتها تجري في
منتهى الانتظام والإتقان. وأن مجئ أرزاقها ونشوء أقواتها من رمل بسيط ومن ماء
أجاج، ميسور وكامل بحيث يثبت بداهة أنه لايتم إلاّ بادارة القدير ذي الجلال،
وإعاشة الرحيم ذي الجمال.
ثم إن السائح والمسافر المذكور قد علم يقيناً أن الإيمان الذي توصل اليه هو أعظم رأس مال الانسان؛ إذ لايملّكه - وهو الفقير - مزرعة فانية ومسكناً مؤقتاً، بل يملّكه الكون العظيم، ويجعله لائقاً ليظفر بملك واسع باقٍ أوسع من الدنيا، و يوجد له - وهو الإنسان الفاني - لوازم حياة أبدية خالدة؛ فينقذه - وهو المسكين المنتظر لمشنقة الأجل - من النهاية المرعبة والأعدام الابدي، فاتحاً له خزائن السعادة السرمدية، لذا خاطب السائح نفسه قائلاً:
نعم، لقد وضح في " الشعاع الرابع
" الذي يشرح
الآية الكريمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173)، وأثبت هناك أنه
سبحانه قد وهبنا معدة بحيث نستطيع بها هضم أطعمة غير محدودة والتلذذ بها.
وأحسن إلينا سبحانه حياة بحيث نستفيد بحواسها نعماً غير محدودة مبثوثة في أرجاء
هذا العالم المشهود الكبير وكأنه سفرة مفروشة للنعم. وأكرمنا سبحانه بإنسانية بحيث
نتذوق بآلاتها العديدة – كالعقل والقلب - من هدايا غير متناهية لعالم
المادة ولعالم المعنى ما نتذوق. وعلّمنا إسلاماً بحيث يأخذ النور من خزائن
غير متناهية لعالم الغيب ولعالم الشهادة. وهدانا إلى إيمانٍ بحيث نستفيد به ونتنور
بما لايُحصر من أنوار عوالم الدنيا والآخرة وهداياهما. فكأن هذه الكائنات قصر عامر
منيف قد زيّن من لدن الرحمة الواسعة بأنفس الاشياء والموجودات، وسلمت بيد الإنسان
مفاتيح خزائنه ومنازله التي لاتعد ولاتحصى، وأودعت في فطرته جميع الاحتياجات
والمشاعر اللازمة للاستفادة من كل ما في القصر.
إن إيجاد جميع
الصور المنتظمة لجميع الموجودات وفتحها من مادة بسيطة - بحقيقة الفتاحية
التي هي محيطة - يثبت الوحدة بداهة. وأن تربية جميع الأحياء كذلك التي أتت إلى
الوجود ودخلت الحياة الدنيا وبخاصة القادمين الجدد - بحقيقة الرحمانية التي
تحيط بكل شيء - تربية في غاية الإنتظام، و إيصال لوازم حياتها وتوفيرها لها
دون نسيان أحد، وشمول الرحمة نفسها ووصولها إلى كل فرد، في كل مكان ، وفي كل
آن، تُظهرُ الوحدة بداهة، وتُري الأحدية في تلك الوحدة كذلك.
نعم، إن
تسارع أرزاق الأشجار إليها وهي المحتاجة للرزق دون أن يكون لها اقتدار ولاإختيار
ولاإرادة وهي ساكنة في أماكنها متوكلة على الله.. وكذا سيلان الحليب المصفى من تلك
المضخات العجيبة إلى افواه الصغار العاجزين،وانقطاع تلك النفقة مباشرة عنهم بعد
اكتسابهم جزءاً من الإقتدار وشيئاً من الإختيار والإرادة، مع استمرار تلك الشفقة
الموهوبة للامهات.. كل ذلك؛ ليثبت بداهة ان الرزق الحلال لا يأتي متناسباً مع
القدرة والإرادة وانما يأتي متناسباً مع الضعف والعجز اللذين يمنحان التوكل.
سبحان
الذي لبس العز وقال به، سبحان الذي تعطف بالمجد و تكرم به، سبحان الذي لا ينبغي
التسبيح إلا له،
سبحان
ذي الفضل و النعم، سبحان ذي العزة و الكرم، سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه، سبحان
دي الجلال و الإكرام.
و
الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته، و دل كل شيء لعزته، و خضع كل شيء لملكه، و
استسلم كل شيء لقدرته.
الحمد
لله الذي سكن كل شيء لهيبته و أظهر كل شيء بحكمته، و تصاغر كل شيء لكبريائه.
أحمده
و هو المحمود على كل ما قدره و رضاه، و أستعينه استعانة من يعلم أنه لا رب له غيره
و إله له سواه، و أستهديه سبيل الذين أنعم عليهم ممن اختار لقبول الحق و ارتضاه. و
أشكره و الشكر كفيل بالمزيد من العطايا و أستغفره من الذنوب التي تحول بين القلب و
هداه. و أعوذ به من شر نفسي و سيئات أعمالي استعاذة عبد فار إلى ربه بذنوبه و خطاياه.
و أعتصم به من الأهواء المردية و البدع المضلة، فما خاب من أصبح به معتصما و بحماه
نزيلا.
و
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده المصطفى و نبيه
المرتضى، رسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، أرسله رحمة للعالمين و محجة
للسالكين و حجة على العباد أجمعين.
فصلى
الله عليه و على آله الطيبين الطاهرين و على أصحابه و أتباعه أجمعين.
و في كل شيء آية
تدل على أنه واحد
أتركك مع بديع الزمان
سعيد النورسي رحمه الله يدلل لك بأسلوبه الخاص المتميز كيف أن الكون كله آيات تدل
على خالقه ذي الجلال و الجمال.. فلنصاحب سائحنا في جولته الإيمانية، و لاشك أن
نظرتك للأمور سوف تتغير في نهاية هذه السياحة العجيبة، و ما التوفيق إلا بالله جل
جلاله.
ولد سعيد النورسي في
قرية نورس الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام 1294هـ – 1877م
من أبوين صالحين كرديين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح ونشأ في بيئة
كردية يخيم عليها الجهل والفقر كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر
وبدايات القرن العشرين. وإلى قريته نورس ينسب.
اسم
والده ميرزا بن علي بن خضر بن ميرزا خالد بن ميرزا رشان من عشيرة أسباريت أما
والدته فاسمها نورية بنت ملا طاهر من قرية بلكان وهي من عشيرة خاكيف والعشيرتان من
عشائر قبائل الهكارية في تركيا.
طلب العلم
لم تكن حياة
سعيد النورسي إلا ملحمة من الوقائع والأحداث التي وضع جميعها في خدمة القرآن
العظيم وتفسير نصوصه وبيان مرامي آياته البينات ضمن رؤية تبلورت مع الزمن ومع
أطوار رحلة العمر، وكانت غايتها النهائية بث اليقظة وإعادة الحياة والفعل للأمة
الإسلامية بعد طول رقاد. وما برح سعيد أن ألتحق بمجموعة من الكتاتيب والمرافق
التعليمية المبثوثة في تلك النواحي من حول قريته نورس. وكان يستوعب كل ما يقدم له
من علم، وسرعان ما أضحى لا يجد ما يستجيب لنهمه التحصيلي في المراكز التي يقصدها.
ومن هنا كانت إقامته في تلك المراكز ظرفية إذ كان يتوق إلى الاستزادة المعرفية
الحقة. وظل يرتحل من مركز إلى مركز ومن عالم إلى آخر حتى حفظ ما يقرب من تسعين
كتابًا من أمهات الكتب.
وتهيأ بعد
ذلك وبفضل المحصول العلمي الجم الذي اكتسبه في طفولته المبكرة تلك أن يجلس إلى
المناظرة ومناقشة العلماء وانعقدت له عدة مجالس تناظر فيها مع أبرز الشيوخ
والعلماء في تلك المناطق وظهر عليهم جميعًا. وانتشرت شهرته في الآفاق. وفي سنة
1314 ه الموافق عام 1897 م ذهب إلى مدينة وان، وأنكب فيها بعمق على
دراسة كتب الرياضيات وعلم الفلك و الكيمياء و الفيزياء و الجيولوجيا و الفلسفة و
التاريخ حتى تعمق فيها إلى درجة التأليف في بعضها فسمي بـ بديع الزمان
اعترافًا من أهل العلم بذكائه الحاد وعلمه الغزير وأطلاعه الواسع.
في هذه
الأثناء نشر في الصحف المحلية أن وزير المستعمرات البريطاني غلادستون قد صرح في
مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلاً:
"ما دام القرآن
بيد
المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع
صلة المسلمين به ".
زلزل هذا
الخبر كيانه وأقض مضجعه فأعلن لمن حوله:
"لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا
يمكن إطفاء نورها."
فشد الرحال
إلى استامبول عام 1325هـ الموافق عام 1907م وقدم مشروعًا إلى السلطان العثماني عبد
الحميد لإنشاء جامعة إسلامية في شرقي الأناضول أطلق عليها اسم "مدرسة
الزهراء" - على غرار جامع الأزهر- تنهض بمهمة
نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية الحديثة على وفق
مقولته:
"ضياء القلب هو العلوم الدينية ونور العقل هو العلوم الحديثة
فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة فتتربى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين وبافتراقهما
يتولد التعصب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية."
أسلوب رسائل النور في مخاطبة العصر
ان
المتأمل في الامور الغيبية الايمانية ينحو به أن ينظر اليها من منظارين:
الاول:
الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة التي تتسم بالثبات والبقاء مادامت السموات
والارض.
الثاني:
مدارك الانسان العقلية وعمق تصوره وسعة تخيله المتّسمة بالتغير والاختلاف والتباين
من فرد الى فرد ومن جيل الى جيل.
ولا
جرم ان التصديق بالامور الغيبية لا يتم أو لا تتكامل عناصره بالاكتفاء بعرض نصوص
الاول وحده، أو بالاعتماد على الثاني وحده، إذ إن مهمة بعث الايمان -ولاسيما في
هذا العصر -لايكفيه عرض الآيات الكريمةوسردها آية آية، وايراد الاحاديث الشريفة
حديثاً حديثاً من غير تنوير عقلي وإدراك انساني متناسب مع قدراته، كما ان مدارك
الانسان وقدراته العقلية وسعة أفقه لاتكفي اساساً لبناء ايماني متين من غير تبصير
قلبي وانبعاث روحي واستلهام وجداني من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة.
وعلى
هذا ، فان التصديق بالامور الغيبية الايمانية قوامه: الهداية الربانية والتنوير
القرآني المقرون بتطويع الانسان لما يمتلكه من قدرات ومدارك-محدودة في اوسع
مستوياتها- لتلقي تلك الاستلهامات الايمانية من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة.
زد
على ذلك هناك حاجة الفطرة الى الايمان التي تفصح عن شدة إلحاحها كلما ضعفت ركائز
الايمان في القلوب،هذه الحاجة الانسانية ايضاً ليست ثابتة على مر العصور، بل هي
متغيرة تبعاً لتغيّر الانسان.
ومماسبق
نرى مصداق قول الرسول صلى الله عليه و سلم في عناية الله الشاملة على البشرية في
بعثة مَن يجدد أمر دينها كل مائة سنة من الزمان.
وربما
يرد سؤال: ما الحكمة في تجديد الدين؟ وما الحكمة في تسلسل المجددين وتواترهم؟ أليس
الاسلام قد اكتمل؟
إن
التفكير في هذا الامر يجعلنا نربط بين تجديد أمر الدين - وهو مكتمل أبداً- وبين
الحاجة الانسانية اليه، وهو أمر مرتبط ضمناً بتغير الانسان في مداركه وتصوره وخياله..فلابد
اذن من إستثمار قدراته ومداركه المتسعة لتعميق الجذور الايمانية فيه وايقاظ نعمة
الاذعان الايماني في فطرته طالما ان معين الايمان لاينضب، فهو منهل ابدي يشبع نهم
المؤمن الى المعرفة مادامت الحكمة ضالته.
ومن
هنا كان المجددون ممثلي عصرهم، مرشدي انسان عصرهم الى مناهل الايمان والى ارتشاف
نسغ الحياة من روح الايات الكريمة ورحيق الاحاديث الشريفة ليجدوا لذة الايمان أنّى
كانوا وكيفما كانوا. وعلى ذلك استحقوا تسمية :" ورثة الانبياء".
فالمجدد
لأمر الدين يهبه الله سبحانه رؤية واضحة شاملة، وبصيرة نفاذة، وقدرة على سبر غور
الآيات والاحاديث، لينهض في اداء الرسالة والتبليغ بها، حتى كأنه مندوب لهذه الامة
منذ نشأته وحتى مماته. فإذا بحياته سجل حافل ينقل صورة عصره رتصويبه لزلاّت
معاصريه، ويفتح امامهم سبل الاستهداء والاسترشاد.
وبديع
الزمان سعيد النورسي قد افاض الله على قلبه من نور القرآن الكريم ماجعله يدخل عالم
الايمان والغيبيات بثبات وإقدام، في عصر طغت فيه قوى المادية، فأسدلت غشاوة على
الابصار والبصائر، فلم تعد ترى العقبى ، وبدت الغيبيات شاحبة باهتة خافتة تنتظر من
يجلوها ببريق الايمان، فما فتئ النورسي يجول ويصول في هذه الساحة متزوداً بنور
الهداية الربانية وماحباه الله من قدرات فائقة في استيعاب ماوصل اليه عصره وماوصلت
الى عصره من علوم، وما تفتحت امامه من افاق الحاجة الانسانية في عصره، حتى وجدناه
في رسائله - رسائل النور- وفي تربيته لطلابه مثالاً للمجدد المقتدي بالرسول الكريم
"ص" والمقتفي خطوات الهداية في نور القرآ ن المبين.
ولعل
العناية الالهية شاءت ان تغرس في النورسي بصيرة نفاذة وقدرة عجيبة في دمج العلوم
العقلية الحديثة والعلوم النقلية الشرعية، فكأنه ينهل من جذور المعرفة لا من
فروعها. إذ يقدم حلولاً وارشادات في اعقد الامور الحياتية والايمانية والغيبية في
بلاغة رائقة واسلوب رشيق تأنس به العقول وتطمئن به القلوب، فتجد فيه ضالتها ومنفذ
خلاصها من دون ان يكدّر شيئاً على صفو الافهام او يغرقها في الفروع دون الاصول.
ولكي
يكون اسلوبه جامعاً لجماح العقول وشرود القلوب فقد اودع الله فيه قدرة على
الاستشهاد بـ"الامثلة" المقنعة القريبة من العقل والقلب معاً، ومنحه قوة
المنطق الفطري والبرهان العقلي والادلة المقنعة واقامة الحجج القوية في معالجته
الامور الغيبية الايمانية، لذا يجد قارئ الرسائل متعة جديدة كلما أعاد قراءتها،
بما ينكشف امامه من افاق ايمانية احتجبت عنه في مطالعته الاولى.
والله نسأل
ان يرزقنا الانتفاع بعلوم الايمان، ويهب لنا من رحمته الاخلاص في القول والعمل.
وصلّ اللهم
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.(عن موقع رسائل النور)
لا ترتبطوا بي شخصياً بل كونوا على صلة وثيقة برسائل النور. فأنا إنسان
عاجز ولي عيوب وتقصيرات، أما رسائل النور فهي ملك القرآن الكريم ومشدودة به، فإنها
تكفيكم. وأنا فرد مثلكم ولا تميزوني كشخص عظيم فالذي يتكلم في رسائل النور هو لسان
الدليل والبرهان والحقيقة.(النورسي)
و في كل شيء آية تدل على أنه واحد
الآيــة الكـبـرى
(الشعاع السابع)
تنبيه مهم
وايضاح
على الرغم من
أهمية هذه الرسالة وعظيم شأنها، لايفهم كل شخص، كل مسألة من مسائلها. ولكن لايبقى
دون حظ منها، فالذي يدخل بستاناً عظيماً، ولاتصل يده إلى جميع ثماره؛ فحسبه ما
ناله منها، إذ البستان لم يخصص له وحده، بل لذوي الأيدي الطويلة حصتهم وحظهم كذلك.
وهناك خمسة أسباب
تعيق فهم هذه الرسالة:
أوله:أنني
كتبت مشاهداتي كما تراءت لي وفق فهمي، كتبتها لنفسي، فهي لم تكتب شأن الرسائل الأخرى
بمستوى فهم الآخرين ومدى تلقيهم.
ثانيه:أن
التوحيد الحقيقي قد كُتب في صورته العظمى، بفيض تجلي " الإسم الأعظم " ، فأصبحت مسائله واسعة جداً، وعميقة جداً، وطويلة جداً؛ لذا لا
يتمكن كل شخص أن يحيط بها مباشرة ولأول وهلة.
ثالثه:أن كل
مسألة من مسائلها بحد ذاتها حقيقة كبرى طويلة - وحفاظاً على وحدة الحقيقة وعدم
تجزئتها - قد تصبح الصحيفة الواحدة جملة مطولة واحدة، فهناك مقدمات كثيرة تورد
بمثابة دليل واحد فقط.
رابعه:أن كل
مسألة - من أغلب المسائل التي تعالجها هذه الرسالة - لها أدلتها الكثيرة، وحججها
الوفيرة، فعند القيام بضم عشرة أدلة أو عشرين أحياناً لسوقها برهاناً واحداً تكون
المسألة طويلة، لاتسعها المدارك القصيرة.
خامسه:لقد
تعرّضتُ لأنوار هذه الرسالة بفيوضات شهر رمضان المبارك ونفحاته، إلاّ أنها كُتبت
على عجل، واكتفيت بالمسودة الأولى؛ لما كنت أعانيه من الأسقام ومتاعب المضايقات من
مختلف الجهات وكنت أشعر عند كتابتها أنها ترد إلى القلب دون اختيار مني ولا إرادة،
فلم أر من اللائق أن أمسها بشئ من التنظيم أو التشذيب حسب تفكيري؛ لذا أخذت
الرسالة هذا الشكل الذي يستشكل على الفهم. فضلاً عما أُدرج فيها من فقرات المقام
الاول الذي كتب باللغة العربية. ( وضعنا
الفقرات الواردة باللغة العربية فى النص محصورة بين قوسين مركنين [ ] .المترجم.)
ولكن رغم هذه
الأسباب الخمسة التي هي مدار القصور والإشكال فإن الرسالة ذات أهمية عظيمة.
فهذه الرسالة
التي هي حقيقة من حقائق "
الآية
الكبرى
" وتفسير
لها، هي الشعاع السابع والحجة الإيمانية الاولى "
من
مجموعة عصا موسى
" .
يتكون هذا
الشعاع من مقامين، مع مقدمة توضح أربع مسائل مهمة:
المقام
الأول:يبين باللغة العربية تفسير الآية الكبرى.
والمقام
الثاني: يبين براهين المقام الأول ويوضحها ويثبتها.
إن طول
المقدمة الآتية، وتوضيحها المسهب، كان بدون اختيار مني، فهناك إذن حاجة أن أملي
عليّ هكذا، وقد يرى البعض طولها قصراً.
سعيد النورسي
المقدمة
بِسمِ الله
الرَّحمنِ الرَّحيمِ
(وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالاِنسَ إلاّ لِيَعْبُدون)
(الذاريات:56)
يفهم من أسرار
هذه الآية الجليلة: أن حكمة مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا والغاية منه، هي:معرفة
خالق الكون سبحانه، والإيمان به، والقيام بعبادته. كما أن وظيفة فطرته، وفريضة
ذمَّته، هي: معرفة الله والإيمان به، والتصديق بوجوده وبوحدانيته إذعاناً ويقيناً.
نعم، إن
الانسان الضعيف الذي ينشد فطرةً الحياة الدائمة الخالدة، والعيش الأبدي الرغيد،
والذي له آمال بلا حدود وآلام بلا نهاية، لابد أن تكون جميع الأشياء والكمالات
هابطة تافهة بالنسبة اليه، بل ليس لأكثرها أية قيمة تذكر، ما عدا الإيمان بالله
ومعرفته، وما عدا الوسائل التي تأخذ بيده إلى ذلك الإيمان الذي هو أس الأساس لتلك
الحياة الأبدية ومفتاحها.
ولما كانت " رسائل النور " قد أثبتت هذه الحقيقة بوضوح تام، وببراهين قاطعة، نحيل اليها،
مبينين هنا ورطتين تزعزعان ذلك اليقين الإيماني في هذا العصر، وتؤديان إلى الحيرة
والتردد، وذلك ضمن " مسائل أربع " :
الورطة
الاولى
وسبيل النجاة
منها مسألتان:
المسألة
الاولى:
مثلما أثبت
في " اللمعة الثالثة عشرة " من " المكتوب الحادي والثلاثين " بالتفصيل أنه: " لاقيمة للنفي في المسائل العامة أمام الإثبات، فحكمه
ضعيف وهزيل " .
مثال ذلك: إذا
أثبت شاهدان من عامة الناس رؤية الهلال في أول شهر رمضان، ونفى الرؤية آلاف من
الوجهاء والعلماء قائلين: " إننا لم نر الهلال " فإن نفيهم هذا يبقى غير ذي قيمة أو أهمية؛ ذلك لأن " بالإثبات " يؤازر الواحد الآخر ويقويه، ففيه تساند واجتماع. بينما " النفي " فلا فرق فيه أن يكون صادراً من شخص واحد أو من ألف شخص؛ إذ النافي
منفرد باعتبار أنه وحده الذي ينفي. ذلك لأن المثبت ينظر إلى الأمر نفسه ثم يصدر
حكمه، كما هو الحال في مثالنا إذا قال أحدهم: هو ذا الهلال في السماء؛ فإن الآخر
يصدّقه ويؤيده مشيراً إلى المكان نفسه، فيشتركان في النظر إلى المكان نفسه،
فيتساندان، ويقوى حكمهما ويرسخ. أما في النفي والإنكار فالنافي لاينظر إلى
الأمر نفسه ولايسعه ذلك، لذا أصبحت القاعدة: " لايمكن إثبات النفي غير الخاص وغير المحدد مكانه " قاعدة مشهورة.
مثال ذلك: إذا
أثبتُّ لك وجود شئ معين في الدنيا، وأنكرتَ أنت وجوده في الدنيا فينبغي لك أن تقوم
بالبحث والتحري عنه في أرجاء الدنيا كافة لتثبت عدم وجود ذلك الشيء الذي
أتمكن بنفسي أن أثبته بمنتهى السهولة، وبإيماءة بسيطة مني اليه، بل عليك أن تغوص أيضاً
في اعماق الأزمنة الغابرة، حتى تستطيع أن تقول: " لايوجد فعلاً... لم تحدث حادثة كهذه! "
ولما كان
النافون والمنكرون لاينظرون إلى الأمر بذاته، وإنما يصدرون أحكامهم حسب أنفسهم،
ووفق عقولهم ونظراتهم؛ لذا لايمكن أن يساند أحدهم الآخر، وأن يكون ظهيراً له؛ ذلك لأن
حُجُب الرؤية مختلفة لديهم والأسباب المانعة للمعرفة متنوعة عندهم. إذ يستطيع كل
شخص أن يقول: إنني لا أرى الشئ الفلاني.. وعندي أنه غير موجود.. وباعتقادي أنه لا
يوجد.. ولكنه لايمكنه أن يقول: إنه فعلاً لايوجد. واذا قال بهذا النفي ـــ وبخاصة
في المسائل الإيمانية التي تشمل الكون كله ـــ فإن كلامه يكون إفكاً عظيماً وكذباً
كبيراً بكبر الدنيا، ولن يكون صدقاً قط ولايمكن ان يُستصوب أو يقوّم ابداً.
نخلص مما
تقدم: إن النتيجة
في الإثبات واحدة، وإن فيه تسانداً، أما في النفي فالنتيجة ليست واحدة بل متعددة،
إذ القيود: عندي.. في نظري.. وباعتقادي.. وأمثالها من الأسباب التي تحجب الرؤية
الصحيحة تتعدد وتختلف بإختلاف الأشخاص؛ لذا تأتي النتائج متعددة أيضاً، ومتفرقة،
فلا يحصل التساند مطلقاً.
وهكذا،
إنطلاقاً من هذه الحقيقة:
فلا قيمة أو أهمية للكثرة الظاهرة
للكفار والمنكرين الذين يصدون عن الإيمان..
ولكن، في
الوقت الذي لا ينبغي ان يتأثر يقين المؤمن ولا يشوب إيمانه بأي نوع من أنواع الشك
والتردد، نرى أن ما يثيره فلاسفة أوروبا من شبهات وجحود في هذا العصر قد جلب
الحيرة إلى بعض المنكوبين المفتونين بهم، فأزال يقينهم وأباد سعادتهم
الأبدية وأوقعهم في شقاء وتعاسة؛ ذلك لأن إنكارهم هذا حوّل معنى " الموت " الذي يصيب يومياً ثلاثين ألفاً من الناس من معناه الحقيقي الذي
هو: إنهاء وظيفة الإنسان على الأرض، إلى صورة الإعدام الأبدي والفناء النهائي
والنهاية المرعبة المخيفة. وأصبح القبر - الذي لا ينغلق بابه - يسمم لذائذ حياة
ذلك المنكر وينغص عليه عيشه بآلام مبرحة ملوّحاً له بالعدم الرهيب دائماً وبإعدامه
الأبدي. فافهم من هذا :
ما أعظم الإيمان وما أعظم نعمته!
وافهم كيف أنه " حياة " للحياة!
المسألة
الثانية:
لايؤخذ بكلام
من هم خارج إطار علم أو صنعة في مسألة من مسائلهما، دارت حولها المناقشة، حتى لو
كانوا عظماء وعلماء وصناعاً مهرة في اختصاصاتهم. ولايؤخذ حكمهم حجة في تلك
المسألة، ولايدخلون ضمن إجماع علماء ذلك الضرب من العلم.
فمثل:لايسري
حكم مهندس عظيم كواحد من الأطباء في تشخيص مرض ما أو علاجه. لذا لاتؤخذ الأقوال
المنكِرة الصادرة من أعظم فيلسوف بنظر الإعتبار فيما يخص المعنويات ولايُقام لها
وزن، وبخاصة مَن توغل منهم كثيراً في الماديات فطمس على بصيرته وتعامى عن
النور، فتبلّد ذهنه عن المعنويات وانحدر عقله الى عينيه وتردى حتى أصبح لايرى غير
المادة ولايعقل شيئاً دونها.
فيا تُرى ما
قيمة أقوال فلاسفة ذهلوا أمام تفرعات أصغر الأجزاء، وتاهوا أمام أكثرها تشتتاً وغرقوا
فيها، وكم يساوي كلامهم وأقوالهم في مسائل التوحيد والإيمان والمعنويات السامية
التي اتفقت عليها مئات الآلاف من أهل العلم والحقيقة أمثال الشيخ الكيلاني - قدس
الله سره - ذي الدهاء القدسي والبصيرة الخارقة الذي كان
يعاين العرش
الأعظم وهو بعدُ على الارض، والذي سعى مرتقياً مراتب المعنويات زهاء تسعين سنة،
حتى كشف الحقائق الإيمانية بعلم اليقين وعين اليقين بل حتى بحق اليقين؟. ألا يكون إنكارهم
واعتراضهم خافتاً واهياً أشبه بطنين البعوضة أمام هدير السماء ودويّ رعودها؟!.
إن ماهية
الكفر الذي يظهر العداء للحقائق الإسلامية ويبارزها إنما هي إنكار، وجهل، ونفي.
وحتى لو بدت -
ظاهريا - إثباتاً و وجودياً،
إلاّ أن معناها عدمٌ، ونفي.
أما الإيمان:فهو
علمٌ، ووجودي، وإثبات، وحكم. وحتى مسائله السلبية فهي ستار لحقيقة إيجابية وعنوان
لها.
ولو أن
اهل الكفر - الذين يصدّون عن الإيمان - سعوا ليثبتوا - بمشكلات عويصة - اعتقاداتهم
المنكرة السلبية ويجعلوها مقبولة بصورة " قبول العدم" و " تصديق العدم " ، فإن ذلك الكفر يمكن أن يعدّ - من جهة - علماً خطأً وحكماً غير
صائب. وإلاّ فإن ما هو سهل ارتكابه من مجرد " عدم القبول " و " الإنكار " و " عدم التصديق " ليس إلاّ جهلاً مطلقاً، وعدم حكم.
والخلاصة:إن
الإعتقاد بالكفر قسمان:
أولهم:ما ليس
له علاقة بالحقائق الاسلامية. فهو تصديق خطأ، وإعتقاد باطل، وقبولٌ خطأ، وحكم ظالم
خاصٌ به. فهذا القسم من الكفر خارج إطار بحثنا، لاشأن لنا به ولاشأن له بنا.
ثانيهم:ما
يبارز الحقائق الإيمانية ويعارضها، وهذا أيضاً قسمان:
الأول:
هو رفضٌ،
وعدم قبول، وهو مجرد عدم تصديق الإثبات، وليس هذا الكفر إلاّ جهلاً، وإلاّ عدمَ
حكمٍ، وهو سهل ارتكابه، وهو خارج نطاق بحثنا ايضاً.
الثاني:
هو قبولٌ
للعدم، وتصديق قلبي للعدم، فهذا القسم من الكفر هو حكمٌ، وهو اعتقاد يفضى بصاحبه
الى الإلتزام. فيضطر إلى إثبات نفيه وإنكاره.
والنفي بدوره
قسمان:
أولهما:أن
يقول النافي: إنه لايوجد في موقع خاص وفي جهة معينة، الشئ الفلاني. وهذا القسم من
النفي المعيَّن يمكن إثباته، وهو ايضاً خارج بحثنا.
القسم الثاني:
هو نفي وإنكار المسائل الإيمانية والقدسية والعامة والمحيطة التي تتوجّه إلى
الدنيا، وتشمل الكون، وتتطلع إلى الآخرة، وتضم العصور. وهذا النفي - كما أثبتنا
في المسألة الاولى - لايمكن إثباته مطلقاً، لأنه يلزم أن يكون هناك نظرٌ محيط
بالكون، ورؤية شاملة للآخرة ومشاهدة نافذة في الزمان غير المحدود بجميع جهاته،
ليثبت مثل هذا النفي.
الورطة
الثانية
وسبيل النجاة
منها: وهي مسألتان أيضاً:
الأولى:إن
العقول التي ضاقت أمام " العظمة " و " الكبرياء " و " المطلق غير المتناهي " وقصرت عن إدراكها نتيجة الغفلة او المعصية او الانغماس في
الماديات والانسياق وراءها قد أخذت - هذه العقول - تزل إلى الإنكار وتنفي -
بغرور علمي - المسائل الهائلة العظمى لعجزها عن الإحاطة بها.
نعم، إن
الذين عجزوا عن استيعاب المسائل الإيمانية المحيطة الواسعة جداً، والعميقة جداً،
في عقولهم الصلدة الضيقة - معنىً - ويقروها في قلوبهم الفاسدة الميتة - تجاه
المعنويات - يقذفون بأنفسهم الى أحضان الكفر والضلال، فيغرقون.
ولكن اذا ما
تمكن هؤلاء من إنعام النظر في كنه كفرهم، وفي ماهية ضلالهم، لرأوا: أن ما هو معقول
في الإيمان تجاه العظمة ولائق بها وضروري لها، يقابله المحال تلو المحال، وغير
الممكن والممتنع طي ذلك الكفر وضمنه.
وقد اثبتت " رسائل النور " هذه الحقيقة بمئات الموازين والموازنات، وبقطعية تامة كقطعية حاصل
ضرب الإثنين في إثنين يساوي أربعاً. فمثلاً: إن الذي يعجز أن يقبل الإيمان بوجوب
وجوده سبحانه وتعالى وبأزليته وبصفاته المحيطة، لعظمته سبحانه ولعظمة صفاته
الجليلة، سيحيل وجوب الوجود، وأزليته سبحانه، وصفات الألوهية إلى
جميع الموجودات غير المحدودة، بل إلى الذرات غير المتناهية، ليتمكن من الإعتقاد
بكفره. أو عليه أن يتخلى عن العقل كالسوفسطائيين الحمقى بإنكاره وجود نفسه، ونفيه
وجود الكون.
وهكذا تستقر
الحقائق الإيمانية والإسلامية كلها باستنادها إلى "
العظمة " - التي هي من شأن تلك الحقائق ومن مقتضاها -
وتثبت في القلوب الصافية والعقول السليمة، بكمال الإذعان والتسليم المطمئن، منقذة
أصحابها مما يجابهها من الكفر ومحالاته المدهشة وخرافاته الموحشة وجهالاته
المظلمة.
نعم، إن العظمة
والكبرياء ستاران ضروريان لابد منهما؛ ويتبين ذلك من إعلان تلك العظمة والكبرياء
في كل وقت: في الأذان، في الصلاة، وفي اغلب الشعائر الاسلامية بترديد:
الله اكبر.. الله
اكبر.. الله اكبر.. الله اكبر
ويتضح ذلك ايضاً في الحديث القدسي (العظمة إزاري
والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً
منهما قذفته في النار)
.....
الآيــة الكـبـرى
مشاهدات سائح
يسأل الكون عن خالقه
بِسمِ الله
الرَّحمنِ الرَّحيمِ
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَبْعُ وَالاَرضُ وَمَنْ فيهِنَّ
وإنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ
وَلكِنْ لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً)
(الاسراء: 44)
إن هذا
المقام الثاني في الوقت الذي يفسِّرُ هذه " الآية الكبرى " يُبيِّنُ كذلك براهين المقام الأول الذي يتضمنه والذي جاء باللغة
العربية ويوضح حججه.
إن آيات
كثيرة في القرآن الكريم - أمثال هذه الآية العظمى - تذكر في مقدمة تعريفها لخالق
هذا الكون "السماوات " التي هي أسطع صحيفة للتوحيد بحيث ما يتأمل فيها متأمل إلاّ تغمره
الحيرة ويغشاه الإعجاب، فيستمتع بمطالعتها بكل ذوق ولذة؛ فالأولى إذن ان يُستهل
بها.
نعم؛ إن كل
من يأتي ضيفاً إلى مملكة هذه الدنيا ويحل في دار ضيافتها، كلما فتح عينيه ونظر رأى
:
مضيفاً في
غاية الكرم.. ومعرضاً في غاية الإبداع.. ومعسكر تدريب في غاية الهيبة.. ومتنزهاً
جميلاً في غاية الروعة.. ومشهراً في غاية الإثارة للشوق والبهجة.. وكتاباً مفتوحاً
ذا معان في غاية البلاغة والحكمة.
وبينما يولع
الضيف السائح أن يعلم ويتعرف على صاحب هذه الضيافة الكريمة، وعلى مؤلف هذا الكتاب
الكبير، وعلى سلطان هذه المملكة المهيبة، إذا بوجه السموات الجميل المتلألئ
بالنجوم النيّرة يطل عليه منادياً: " انظر اليّ، فانا اعرّفك بالذي تبحث عنه " . فينظر السائح ويرى :
أن ربوبية ظاهرة تتجلّى :
في
رفعها مئات الالوف من الاجرام السماوية بلا عمد ولاسند، منها ما هو أكبر من أرضنا
ألف مرة، وما هو أسرع إنطلاقاً من القذيفة بسبعين مرة.
وفي تسييرها
وجريها تلك الاجرام معاً بسرعة فائقة بلا مزاحمة ولا مصادمة..
وفي إيقادها
تلك القناديل المتدلية التي لاتعد، بلا زيت ولا إنطفاء..
وفي إدارتها
تلك الكتل الهائلة التي لا حد لها، بلا ضوضاء ولاصخب ولا اختلال..
ويرى تجليها كذلك :
في تسخيرها
تلك المخلوقات العظيمة في مهام معينة كاستسلام الشمس والقمر لأداء وظائفهما دون
إحجام أو تلكؤ..
وفي تصريفها
هذا العدد الهائل الذي لاتحده الأرقام ضمن ذلك البعد الشاسع غير المتناهي ما بين
دائرة القطبين تصريفاً يجري في الوقت نفسه، وبالقوة نفسها، وبالطراز نفسه، وبسكة
الفطرة نفسها، وبالصورة نفسها، ومجتمعة، دون ان تصاب بـأدنى نقص او خلل..
وهاله ما يرى
من تجلي الربوبية :
في
اخضاعها تلك السيارات الضخمة التي تملك قوى هائلة ومتجاوزة لحدودها، منقادةً
مطيعةً لقانونها أن تتجاوز أو تنحرف.
وفي جعلها
وجه السماء صافياً نقياً يتنظف طاهراً مما تلوثه أنقاض تلك الاجرام المزدحمة دون
ان يُرى عليه قذى ولا أذى.
وفي سوقها
تلك الأجرام كأنها مناورة عسكرية منسقة وعرضها أمام المخلوقات المشاهدين كأنها
مشاهد فلم سينمائي، بتدوير الارض بالليل والنهار، وتجديدها انماط المناظر الحقيقية
الخلابة المثيرة للخيال لتلك المناورة الرائعة وابرازها في كل ليلة، وفي كل سنة.
فهذه الربوبية
الجليلة الظاهرة وما
تظهر ضمن فعاليتها من حقيقة جلية مركبة من: " التسخير، والتدبير، والادارة، والتنظيم، والتنظيف، والتوظيف " تشهد على وجوب وجود خالق تلك السموات وعلى وحدته، بعظمتها المهيبة
هذه، وباحاطتها الكلية هذه، وتشهد - كما هو مشاهد - بأن وجوده جلّ وعلا أجلى من
وجود هاتيك السموات.
وقد ذكر هذا
المعنى في المرتبة الأولى من المقام الأول كالآتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي
دلّ على وجوب وجوده في وحدته: السموات بجميع ما فيها، بشهادة عظمة إحاطة حقيقة:
التسخير، والتدبير، والتدوير، والتنظيم، والتنظيف، والتوظيف، الواسعة المكملة
بالمشاهدة]
*
* *
ثم إن الفضاء
الذي هو محشر العجائب ومعرض الخوارق والمسمى ب " الجو " نادى بصوت هادر ذلك القادم الى الدنيا.. ذلك الضيف السائح: " انظر إليّ لارشدك الى مَن تبحث عنه بشوق ولهفة، واعرّفك بذاك الذي
أرسلك الى هن " .
فينظر
الى وجه الفضاء المكفهر وهو يتقطَّر رحمة! ويستمع الى دويّه المخيف المرهب وهو
يحمل رحيق البشرى! فيرى أن :
ثم ينظر ذلك
السائح إلى " الرياح " التي تجول في الجو فيرى أن الهواء يستخدم في وظائف كثيرة، في
منتهى الحكمة والكرم استخداماً
كأن كل ذرة من ذرات ذلك الهواء الجامد - وهي لاتملك شعوراً - تسمع وتعي ما يلقى
إليها من الأوامر الصادرة من سلطان هذا الكون. فتؤدي خدماتها بقوة ذلك
الآمر وهيمنته وتنفّذها بكل انتظام ودقة دون أن تتوانى في شئ منها
فتدخل هذه الذرات في استنشاق جميع أحياء الأرض للهواء، أو نقل الأصوات أو المواد
الضرورية لذوي الحياة كالحرارة والضوء والكهرباء، أو التوسط لتلقيح النباتات أو ما
شابهها من الوظائف الكثيرة، فهي تستخدم بجميع هذه الخدمات من قبل يد غيبية
استخداماً في منتهى الشعور، والعلم، والحيوية .
ثم ينظر إلى " المطر " فيرى أن تلك القطرات اللطيفة البراقة العذبة التي أرسلت
وأغدقت من خزينة الرحمة الغيبية،
تزخر بهدايا رحمانية ووظائف غزيرة حتى كأن الرحمة المهداة قد تجسّدت منصبة من عيون
الخزينة
الربانية على صورة تلك
القطرات المتهاطلة.. ولهذا أطلق على المطر اسم " الغيث " .. و " الرحمة ".
ثم ينظر إلى " البرق " ويصغي إلى " الرعد " ، فيرى أنهما يستخدمان في أمور بالغة الإعجاب والغرابة.
فيرجع
بَصَرهُ إلى عقله، ويحاور نفسه قائلاً: إن هذا السحاب الجامد الخالي من الشعور،
والمنفوش كالعهن، لاشك أنه يجهلنا ولا يعرفنا، ولايمكن أن يسعى بنفسه لإمدادنا
رأفة بنا ورقة لحالنا، ولايمكن أن يظهر بادياً في السماء ويختفي منقشعاً بدون أمر،
بل لابد أنه يسعى في وظيفته وفق أمر صادر من آمر قدير مطلق القدرة، ورحيم مطلق
الرحمة. حيث يختفي دون أن يعقب، ثم يظهر فجأة، متسلماً مهام عمله، فيملأ عالم
الجو ويفرغه بين الفينة والفينة تنفيذاً لأمر سلطان جليل
متعال فعال، فيخط على
لوحة السماء دوماً بحكمة، ويمحو بالإعفاء، محولاً إياها إلى " لوحة المحو والاثبات " وإلى صورة مصغرة للحشر والقيامة. اذ يركب
السحاب متون الرياح بأمر من حاكم مدبّر ذي ألطاف واحسان وذي إكرام وعناية، حاملاً
خزائن أمطار واسعة سعة الجبال وضخامتها مسعفاً بها مواضع من الأرض محتاجة اليها،
وكأنه يرقّ لحالها فيبكي عليها بدموعه ويطلقها ضاحكة بالأزاهير والرياحين، ويخفف
من شدة لفحة الشمس ويسقي بساتين الأرض ومروجها ويغسل وجهها وأديمها ويطهرها من
الأقذار ليشرق بالصفاء والرواء.
ثم يحاور ذلك
المسافر الشغوف عقله قائلاً:
إن هذا
الهواء الجامد الذي لاحياة له ولاشعور ولاثبات له ولاهدف، وهو في اضطراب دائم،
وهيجان لايسكن، وذا عواصف وأعاصير لا تهدأ، تأتي إلى الوجود وتبرز بسببه - وبصورته
الظاهرة - مئات الألوف من الأعمال والوظائف والنعم والإمدادات العامرة بالحكمة
والرحمة والإتقان، مما يثبت بداهة : انه ليست لهذه الرياح الدائبة حركة ذاتية،
فلا تتحرك بذاتها أبداً وإنما يحركها أمر صادر من
آمر قدير عليم مطلق وحكيم كريم مطلق، وكأن كل ذرة من ذراته تفهم وتسمع -
كالجندي المطيع - كل أمر صادر من لدن ذلك الآمر وتدركه فتنقاد اليه، وتجعل الأحياء
جميعها تتنفسها لتسهم في إدامة حياتها، وتشارك في تلقيح النباتات ونموها، وتعاون
في سوق المواد الضرورية لحياتها، وسوق السحب وإدارتها وتسيير السفن التي لا وقود
لها وجعلها تمخرالبحار وتسيح فيها، وتتوسط خاصة في إيصال الأصوات والمكالمات
والإتصالات عبر أمواج اللاسلكي والبرق والراديو، وأمثال هذه الخدمات العامة
الكلية، فضلاً عن أن ذرات الهواء مركبة من مواد بسيطة كالآزوت ومولد الحموضة
(الاوكسجين) ومع تماثل بعضها لبعض فلا أراها إلاّ أنها تستخدم بيد حكيمة وبانتظام
كامل في مئات الألوف من انماط المصنوعات الربانية.
لذا حكم
السائح قائلاً : حقاً مثلما صرّحت به الآية الكريمة : (وتصريف الرياح والسحاب المسخّرِ بين السّماء والارض) (البقرة:164)
فإن الذي
يجري أمره على الهواء ويستعمله في خدمات ووظائف ربانية غير محدودة، بتصريف الرياح،
وفي أعمال رحمانية غير محدودة، بتسخير السحاب، ويوجد الهواء على تلك
الصورة،ليس الاّ رباً واجب الوجود، قادراً على كل شئ، وعالماً بكل شئ ذا جلال
واكرام.
ثم يرجع
بنظره إلى " الغيث " فيرى أنه مثقل بمنافع بعدد شآبيبه ويحمل تجليات رحمانية بعدد
زخاته، ويظهر حِكماً بقدر رشحاته، ويرى أن تلك القطرات العذبة اللطيفة المباركة
تُخلق في غاية الإنتظام وفي منتهى الجمال والبهاء وبخاصة البَرَد الذي يرسل -
وينزل حتى صيفاً - بانتظام وميزان، بحيث أن العواصف والرياح العاتية - التي تضطرب
من هولها الكتل الضخمة الكثيفة - لا تخل في موازنة ذلك البَرَد ولا انتظامه، ولا
تجعله كتلاً مضرة جمعاً بين حبّاته !. فهذا الماء الذي هو جماد بسيط لايملك
شعوراً، يُستخدم في أمثال هذه الأعمال الحكيمة، وبخاصة استخدامه في الإحياء
والتروية، وهو المركب من مادتين بسيطتين جامدتين خاليتين من الشعور؛ هما مولد
الماء ومولد الحموضة - الهيدروجين والاوكسجين - الاّ انه يستخدم في مئات الآلاف من
الخدمات والصنائع المختلفة المشحونة بالحكمة والشعور.
فهذا الغيث
اذاً ما هو الاّ رحمة متجسمة بعينها، ولايتم صنعه الاّ في خزينة الغيب لرحمة " الرحمن الرحيم " ، وهو بنزوله وانصبابه على الارض يفسّر عملياً وبوضوح الآية
الكريمة : (وهو الذي يُنزّلُ الغيثَ من بعدِما قَنَطوا
وينشُرُ رَحْمَتَه) (الشورى:28).
ثم يصغي
ذاهلاً إلى " الرعد " وينظر مندهشاً إلى " البرق " فيرى أن هاتين الظاهرتين الجويتين العجيبتين تفسران تماماً
الآيتين الجليلتين: (ويُسَبّح الرّعدُ بحمده)
(الرعد: 13) و (يكاد سنا برقه يَذهَب بالأبصار)
(النور: 43). فإنهما تخبران كذلك عن قدوم الغيث فتبشران المعوزين الملهوفين.. نعم،
ان انطاق الجو المظلم بغتة بصيحة هائلة تزمجر وتجلجل، وملء الظلام الدامس بنور
يكاد يذهب بالأبصار وبنار ترعب كل موجود وإشعال السحب العظيمة كالجبال والمنفوشة
كالعهن، المحملة بالبرد والثلج والماء.. وما شابهها من هذه الاوضاع الحكيمة
الغريبة؛ لتنبِّه الانسان الغافل وتوقظه، وتلوّح بالدرّة على رأسه
المخفوض قائلة :
يا هذا!. ارفع رأسك وانظر إلى غرائب
الصنعة وبدائع الخلقة للفعال القدير الذي يريد ان يُعرّف نفسه لعباده. فكما انك لست طليقاً سائباً مفلوت
الزمام في هذا الوجود، فلن تكون هذه
الحوادث سدى ولاعبثاً، بل كل منها تساق الى وظائف حكيمة بخضوع واستسلام وكل منها
يستخدم من لدن ربٍ مدبّر حكيم.
وهكذا يسمع
هذا السائح الولوع شهادة سامية جليّة لحقيقة مركبة من تسخير السحاب، وتصريف
الرياح، وانزال الغيث، وتدبير الظواهر الجوية فيقول: آمنت بالله..
وقد أفادت
المرتبة الثانية من المقام الاول مشاهدات هذا السائح في الجو كالآتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب
وجوده: الجوّ بجميع ما فيه، بشهادة عظمة إحاطةِ حقيقة: التسخير، والتصريف،
والتنزيل، والتدبير، الواسعة المكملة بالمشاهدة].
*
* *
ثم ينظر إلى
صحائفها فيرى أن كل صحيفة منها تعرّف ربها بآلاف آياتها.. ولكن لمّا لم يجد متسعاً
من الوقت لمطالعة الصحائف كلها، فقد اقتصر بالنظر إلى صحيفة واحدة منها
فقط، وهي صحيفة تجسّد إيجاد ذوي الحياة وإدارتها في فصل الربيع . فشاهد أن أفراداً
غير محدودين لمائة ألف من الانواع تنفتح صورُها وتنبسط من مادة بسيطة
بمنتهى الإنتظام، وتُربّى بمنتهى الرحمة، وتنشر في الأرجاء بمنتهى السعة
وتمنح بذور قسم منها جُنيحات رقيقة للطيران في غاية الإعجاز.. وأنها تدار
بمنتهى التدبير، وتعّيش وتغذّى بمنتهى الشفقة والرأفة، وتُؤمّن
ارزاقها الوفيرة المتنوعة اللذيذة الطيبة بمنتهى الرحمة والإرزاق، فتُوافى
من غير شئ، ومن تراب يابس، ومن جذور صلبة كالعظام ومن بذور متماثلة، ومن قطرات ماء
متشابهة، وتبعث من خزينة الغيب إلى ذوي الحياة كل ربيع - كحمولة قطار مشحون - مائة
ألف نوع ونوع من الأطعمة واللوازم بكمال الإنتظام والإتساق. وبخاصة إرسال اللبن
الخالص اللذيذ الدفاق من ينابيع أثداء الوالدات الرؤومات الملفعات بالشفقة
والرحمة والحكمة هدايا للصغار والأطفال.. كل ذلك يثبت بداهة أنه تجلٍ في
منتهى التربية والرأفة من تجليات رحمة الرحمن الرحيم وإحسانه العميم.
والخلاصة: لقد فهم
السائح بمشاهدة هذه الصحيفة الحياتية للربيع الجميل، أنها صورة من صور الحشر
والنشور بمئات الآلاف من النماذج والنظائر، فهي تفسّر عملياً تفسيراً محسوساً
رائعاً الآية الكريمة : (فانظر الى آثار رحمتِ الله كيف
يُحيي الارضَ بعدَ موتها إن ذلك لمُحيي الموتى وهو على كل شئ قدير) (الروم:
50) .والآية نفسها تفيد باعجازجميل المعاني الواردة في هذه الصحيفة.
وفهم ما
تردده كرة الأرض بجميع صحائفها وبنسبة جسامتها وقوتها من: لا إلهَ إلاّ
هو.
وهكذا لأجل
بيان شهادة مختصرة، لوجه واحد فقط، من عشرين وجهاً، من وجوه صحيفة واحدة، من
الصحائف الواسعة لكرة الارض، التي تربو على عشرين صحيفة، ولأجل بيان ما أفادته
مشاهدات ذلك السائح في سائر الوجوه والصحائف.. ذكر في المرتبة الثالثة من المقام
الاول:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي
دلّ على وجوب وجوده في وحدته:الأرض بجميع ما فيها، وما عليها، بشهادة عظمة إحاطة
حقيقة: التسخير، والتدبير، والتربية، والفتاحية وتوزيع البذور والمحافظة والإدارة،
والإعاشة، لجميع ذوي الحياة، والرحمانية والرحيمية العامة الشاملة المكملة
بالمشاهدة].
*
* *
ثم اصبح ذلك
المسافر المتفكر كلما قرأ صحيفة قوي إيمانه الذي هو مفتاح السعادة، وزادت
معرفته بالله التي هي مفتاح المدارج المعنوية، وانكشفت لبصيرته درجة أخرى من حقيقة
الإيمان بالله الذي هو الأساس القويم لجميع الكمالات ومنبعها الثر العذب. ومع
أنه قد وعى دروساً بليغة وتامة من السماء والجو والأرض، بات يطلب المزيد. كلما
منحته تلك الصحائف أذواقاً معنوية لطيفة، ولذائذ روحية كثيرة، مثيرة شغفه، منبهة
ولعه بشدة قائلاً: هل من مزيد؟، وإذا به يسمع صدى أذكار " البحار والأنهار العظيمة " التي تتدفق خشوعاً وشوقاً، فينصت الى همس أصواتها الحزينة
اللذيذة، وهي تقول بلسان الحال والمقال: " ألا تنظر إلينا ؟ ألا تطالعنا ؟. " فينظر بلهفة حائرة ويرى :
أن البحار
التي تتماوج بحيوية وتتلاطم بشدة دوماً، والتي من شأنها التشتت والإنسكاب
والغغراق، قد أحاطت بكرة الأرض، فهما تُسيَّران معاً في منتهى السرعة وتجريان في
سنة واحدة ضمن دائرة مقدارها خمس وعشرون ألف سنة. وعلى الرغم من كل هذا فهي
لاتتفرق أبداً ولا تنسكب مطلقاً ولا تستولي على جارتها اليابسة، فلابد من أنها
تسكن وتسيّر وتحفظ بأمر من له القدرة المطلقة، والعظمة المطلقة.
ثم
ينظر ذلك المسافر إلى الأنهار فيرى أن فيها من المنافع والمصالح ولها من الخدمات
والوظائف وما تنتجه من مصاريف وما ترده من موارد محسوب بحكمة واسعة، وبرحمة
عظيمة بحيث تثبت بداهة ان جميع الجداول والترع والينابيع والسيول والأنهار
العظيمة تنبع وتجري من خزينة الرحمن ذي الجلال والإكرام. بل إنها تُخزن
وتدّخر إدخاراً خارقاً للمألوف، فتصرف وتجري جرياً فوق المعتاد حتى ورد في الحديث
الشريف ما معناه: أن أنهاراً أربعة تجري من الجنة
(عن ابي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سَيْحان وجَيحان والفرات والنيل كلٌّ من انهار الجنة).
ــ مسلم: كتاب الجنة:26، وفي الخطيب البغدادي "«ليس من الجنة في الارض شئ
إلاّ ثلاثة اشياء: غرس العجوة والحجر وأواقٍ تنزل في الفرات كلَّ يوم بركة من
الجنة".وانظر فيض القدير 5/381.)
بمعنى أن
جريان هذه الأنهار؛ هو فوق حسابات الأسباب الظاهرة بكثير، لذا فهي لاتجري إلاّ من
خزينة جنة معنوية لا تنضب ومن فيض منبع غيبي لاينفد. فمثل:هذا نهر النيل الذي حوّل
صحراء مصر القاحلة إلى جنة الدنيا، يجري كبحر صغير دون نفاد، وينبع من جبل واقع في
الجنوب يدعى جبل القمر، فلو جُمّعت صرفياته لستة أشهر وجُمّدت، لحصل ما هو أعظم من
ذلك الجبل ! والحال أن ما خصّص له من مكان للخزن لايبلغ سُدس ذلك الجبل. أما
وارداته فقليلة ضئيلة، حيث أن شحة الأمطار وشدة حرارة المنطقة وتعطش الأرض، كل ذلك
مجتمعاً لايفسح مجالاً للخزن إلاّ للقليل، ولايسمح للمحافظة على ميزان وارداته
وصرفياته؛ لذا قد روي أنه يجري من "
جنة " غيبية هي فوق القوانين الأرضية المعتادة. فأفادت
تلك الرواية حقيقة لطيفة ذات مغزى عميق جداً.
وهكذا رأى
السائح شهادة واحدة وحقيقة واحدة، من آلاف الشهادات والحقائق التي هي واسعة سعة
البحار نفسها، وفهم أن جميعها تردد معاً بالإجماع، وبقوة عظمة البحار: " لا إله
إلاّ هو
" وبرز
أمامه شهود بعدد مخلوقات البحار على صدق هذه الشهادة.
ولبيان
شهادات البحار والانهار جميعها، أفادت المرتبة الرابعة من المقام الأول ما يأتي:
[لا إله إلا الله الواجب الوجود الذي
دلّ على وجوبِ وجوده في وحدته: جميع البحار، والانهار، بجميع ما فيها، بشــهادة
عظمةِ إحاطةِ حقيقة: التســخير، والمحافظة والإدارة الواسـعة المنتظمة بالمشــاهدة].
*
* *
ثم تدعو
الجبال والصحارى ذلك المسافر المستغرق في السياحة الفكرية قائلة: " ألا تقرأ صحيفتنا ايضاً ؟ " .. فهو بدوره يحدق النظر، ويرى :
أن
وظائف الجبال الكلية، وفوائدها العامة هي من العظمة والحكمة مما يُحير
العقول.
فمثل: بروز
الجبال واندفاعها من الأرض بأمر رباني يهدئ هيجان الأرض ويخفف من غضبها وسخطها
وحدتها الناجمة من تقلباتها الباطنية، ويدعها تتنفس مستريحة بفوران تلك الجبال ومن
خلال منافذها، فتتخلص بذلك من الزلازل المهلكة والتصدّعات المدمّرة، فلا تعد تسلب
راحة الآمنين من سكنتها. وكما يُنصب على السفن الأعمدة والأوتاد حفاظاً على
توازنها ووقايتها من التزعزع والغرق، كذلك الجبال هي أوتاد ذات خزائن لسفينة
الارض، تقيها من الزلزال وتُثبتها وتحفظ توازنها. وقد بيَّن القرآن الكريم هذا
المعنى في آيات كثيرة منها:
(والجبال اوتاداً) (النبأ: 7) (وألقينا فيها رواسي) (الحجر: 19) (والجبال
أرساها) (النازعات: 32)
ومثل:أن ما
في جوف الجبال من أنواع الينابيع والمياه والمعادن والمواد والأدوية التي يحتاج
إلى كل منها ذوو الحياة، قد أدخرت بحكمة، وأحضرت بكرم، وخزنت بتدبير.
بحيث تثبت بداهة أن هذه الجبال هي خزائن ومستودعات إدخار تحت أمر القدير
الذي لا نهاية لقدرته، والحكيم الذي لا نهاية لحكمته. فيدرك السائح هذا، ويقيس
على هاتين الجوهرتين ما يليهما من وظائف الجبال والصحاري وحِكَمهما - التي هي
بضخامة الجبال وسعة الصحاري - فيرى أن الجبال والصحاري تشهدان، وتوحِّدان ب " لا إله إلاّ هو " بلسان جميع حِكَمهما وبلغة جميع وظائفهما وبخاصة إدخارهما
للإحتياطي من المواد. وأن تلك الشهادة والتوحيد هما من القوة والرسوخ ما للشم
العوالي، وهما من الشمول والسعة ما للقفار والصحاري، فيردد اللسان بخشوع: آمنت بالله.
وهكذا ذكر في
المرتبة الخامسة من المقام الاول لبيان هذا المعنى مايأتي :
[ لا إله إلاّ الله الواجـب الوجـود
الذي دلّ على وجـوب وجوده: جميع الجبال والصحاري، بجميع ما فيها، وما عليها،
بشهادة عظمة إحاطة حقيقة: الاِدخار، والإدارة، ونشـر البذور، والمحـافظة، والتدبير
الإحتيـاطية الربانية الواسـعة العـامـة المنتظمة المكملة بالمشـاهدة].
*
* *
وبينما كان
ذلك المسافر يجول بفكره في الجبال والصحاري، انفتح أمام فكره باب عالم " الأشجار والنباتات " يدعوه قائلاً: " هلمَ إلينا وَجُل في رياضنا واقرأ سطورن " .. فدخل و رأى :
أن الأشجار
والنباتات قد عقدت مجلساً فخماً رائعاً للتهليل والتوحيد، وشكلت حلقة مهيبة
للذكر والشكر. ففهم من ألسنة أحوالها كأنها تلهج معاً، وتردد بالإجماع: " لا إله إلاّ هو " لما رأى من ثلاث حقائق كبرى كليّة تدل على أن جميع الاشجار
المثمرة وجميع النباتات المزهرة تؤدي شهادتها مسبّحة وتقول معاً بالألسنة
الفصيحة لأوراقها الموزونة، وبالكلام الجزيل لأزهارها الجميلة، وبالكلمات البليغة
لأثمارها المنتظمة " لا إله إلاّ هو " :
أولاه : حقيقة
الإنعام والإكرام المقصودين، والإحسان والإمتنان الإراديين. التي يُحسُّ
معناها إحساساً ظاهراً في كل نبات وشجر. مثلما هي حقيقة واضحة وضوح ضوء الشمس في
الكل.
ثانيته:حقيقة
التمييز والتفريق المقصودين بحكمة، والتزيين والتصوير الإراديين برحمة، وهي
واضحة وضوح النهار - حقيقةً ومعنىً - فالتمييز بين تلك الأنواع والأفراد غير
المحدودة غرض مقصود، والإختلاف والتباين بينها حكمة مطلوبة، ولمسات
التجميل والتحسين رحمة مرادة، وهذه الحقيقة واضحة وضوحاً لا يدع
مجالاً قط لنسبتها إلى المصادفة، مما يُظهر عياناً انها آثار الصانع الحكيم ونقوشه
البديعة.
ثالثته :
حقيقة فتح صور المصنوعات غير المحدودة، بمئات
الآلاف من الانماط المختلفة والأشكال المتنوعة فتحاً من حبوب معدودة متشابهة، ومن
نوى محدودة متماثلة، واستنباتها في غاية الإنتظام والميزان وبمنتهى الزينة
والجمال، رغم أنها بسيطة جامدة ومختلطة بعضها ببعض. ففتح صور كل فرد من أفراد
تلك الأنواع المتباينة - التي تربو على مائتي ألف نوع - كل على إنفراد، بانتظام
كامل، وبموازنة تامة، وبحيوية وحكمة، وبدون خطأ، لهو حقيقة ساطعة جلية أسطع من
الشمس..
ففهم السائح
أن هناك شهوداً ودلائل إثبات على تلك الحقيقة بعدد أزهار الربيع، وبعدد أثماره
وبعدد أوراقه وموجوداته فعبّر عمّا جاش في قلبه من معان كريمة فقال:
الحمد لله على نعمة الإيمان.
ولبيان هذه
الحقائق والشهادات ذكر في المرتبة السادسة من المقام الاول الآتي:
[ لا إله إلاّ الله الواجـب الوجـود
الـذي دلّ علـى وجـوب وجـوده في وحـدته: إجمـاع جميع أنـواع الأشـجار والنباتات،
المسـبحات الناطقات : بكلمـات أوراقها المـوزونات الفصيحـات، وأزهـارهـا المزينـات
الجـزيلات، وأثمـارهـا المنتظمـات البـليغات، بشهادة عظمة إحـاطة حقيقة :
الإنعـام، والإكـرام، والإحسـان، بقصــدٍ ورحـمةٍ. وحـقيقة :التمييـز، والتـزييـن،
والتصـويـر، بإرادةٍ وحكمةٍ، مع قطعية دلالة حقيقة فتح جميع صورها الموزونـات
المزيّنات المتباينة المتنوعة غير المحدودة، من نَويات وحبّات متماثلة متشابهة
محصورة معدودة].
*
* *
وبينما كان
السائح الشغوف - الذي ازداد بالسمو ذوقاً وشوقاً - عائداً من تلك السياحة
الفكرية مبتهجاً بلذة وقوفه على الحقيقة وعثوره على جنات الايمان، راجعاً من بستان
الربيع، حاملاً باقة كبيرة واسعة - من أزهار المعرفة والإيمان - سعة الربيع نفسه،
إذا بباب عالم الطيور والحيوانات ينفتح إزاء عقله التوّاق للحقيقة، وفكره
المشتاق للمعرفة، تدعوه تلك الطيور والحيوانات بمئات الألوف من الأصوات المتباينة،
والألسنة المختلفة، للدخول إلى ذلك العالم الفسيح، وترحب بمقدمه إلى عالمها..
فدخله، ورأى أن جميع الطيور، وجميع الحيوانات، بأنواعها وطوائفها وأممها كافة تذكر
متفقة: " لا إله إلا هو " بلسان حالها ومقالها، حتى لكأن
سطح الأرض مجلس ذكر مهيب، ومجمع تهليل عظيم.. ورأى أن كلاً منها بحد ذاته بمثابة
قصيدة ربانية تترنم بآلاء الربوبية.. وكلمة سبحانية ناطقة بالتقديس لبارئها.. وحرف
رحماني ذي مغزى ينم عن الرحمة الإلهية؛ فالجميع يثنون على خالقهم، ويصفونه بالحمد
والثناء، وكأن حواس تلك الطيور والحيوانات ومشاعرها واعضاءها، وآلاتها، واجهزتها،
وقواها، كلمات موزونة منظومة، وكلام فصيح بليغ..
فشاهد السائح
في ذلك ثلاث حقائق عظيمة محيطة، تدل دلالة صادقة على أن تلك الطيور والحيوانات
تؤدي شكرها تجاه خلاّقها ورزاقها بتلك الكلمات، وتشهد على وحدانيته سبحانه بذلك
الكلام:
أولاها:
حقيقة الإيجاد والصنع والإبداع، أي حقيقة الإحياء ومنح الروح، التي لا يمكن
نسبتها مطلقاً الى المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء؛ إذ هي إيجاد
من عدم يقع بحكمة، وإبداع مقرون بإتقان، وخلق مصحوب بإرادة،
وإنشاء مبني على علم. وهي تُظهر بجلاء تجلي " العلم والحكمة والارادة " بعشرين وجهاً، وهي برهان باهر على وجوب وجود " الحي القيوم " وشاهد حق على صفاته السبعة الجليلة وآية صدق على
وحدانيته جل وعلا. أي أن حقيقة الإحياء تدفع إلى الوجود شهود إثبات بعدد ذوي
الأرواح كلها.
ثانيته:حقيقة
التمييز والتزيين والتصوير التي تتضح من خلال تلك المصنوعات غير المحدودة التي
يختلف بعضها عن بعض بعلامات فارقة متميزة في الوجوه، وبأشكال مزينة جميلة
متباينة، وبمقادير موزونة دقيقة مختلفة، وبصور منتظمة منسقة. فهي حقيقة قوية عظمى
بحيث لايمكن ان يمتلك هذا الفعل المحيط الذي يُبرز عياناً ألفاً من الحِكَمْ
والخوارق سوى القادر على كل شئ، والعالم بكل شئ، وليس هناك إمكان أو احتمال آخر قط.
ثالثته:حقيقة
فتح صور تلك الحيوانات غير المحدودة بمئات الآلاف من الأشكال والأنماط، من بيوض
وبويضات متماثلة معدودة، ومن قطرات محدودة، متشابهة أو مختلفة بفارق طفيف..
ففتح تلك الصور - التي هي بحد ذاتها معجزة الحكمة - بإنتظام كامل، وموازنة تامة،
دونما خطأ ولا زيادة أو نقصان، إنما هو حقيقة ساطعة باهرة تستقي نورها من دلائل
وأسانيد بعدد الحيوانات جميعها.
وهكذا شاهد
السائح عالم الطيور والحيوانات وتلّقى درساً كاملاً من دلالة هذه " الحقائق الثلاث " المتفقة، دلالة واضحة على أن جميع أنواع الحيوانات تشهد قائلة
معاً: " لا إله إلا هو " حتى غدت الأرض كأنها إنسان ضخم جداً، تذكر " لا إله إلا هو " بنسبة كبرها وضخامتها فتملأ من شدتها وقوتها قبة السماء حتى
يسمعها اهل السماوات.
وقد ذكر في
المرتبة السابعة من المقام الاول لبيان هذه الحقائق ما يأتي:
[لا إله إلاّ الله الواجبُ الوجــود
الذي دلّ علـى وجـوب وجوده في وحــدته: إتفاقُ جميع أنـواع الحيوانات، والطيور،
الحامدات الشاهدات بكلمات حَواسِّها، وقواهــا، وحسـياتها، ولطائفها، الموزونات
المنتظمات الفصيحات، وبكلمات أجهزتها وجوارحها، وأعضائها، وآلاتها المكملة
البليغات، بشهادة عظمة إحاطة حقيقة الإيـجاد والصنع، والإبــداع، بالإرادة،
وحــقيقة: التمييز والتزيين، بالقصد. وحقيقة: التقدير والتصوير، بالحكمة مع قطعية
دلالة حقيقة: فتح جميع صورها المنتظمة المتخالفة المتنوعة غير المحصورة من بيضاتٍ
وقطراتٍ متماثلة متشابهة محصورة محدودة].
*
* *
ثم أراد هذا
السائح المتأمل أن يدخل عالم الإنسان ودنيا البشر كي يمضي صعداً في مراتب غير
محدودة للمعرفة الإلهية ويرقى درجة أعلى في أذواقها، ومنزلة أسمى في أنوارها غير
المتناهية، وعندها دعته إلى الدخول صفوة البشر أولاً وهم " الأنبياء عليهم السلام " فدخل ومضى يسبر غور الأزمان قبل كل شئ فرأى أن جميع الأنبياء
عليهم السلام وهم خيرة نوع البشر وأكملهم قاطبة، يذكرون بلسان واحد ويرددون
معاً بالاجماع:
" لا إله إلاّ هو ". وهم جميعاً يدعون إلى التوحيد الخالص بقوة ما لايحد من
معجزاتهم الباهرة المصدّقة لهم ولدعواهم، ورأى أنهم جميعاً يدعون البشرية
الى الإيمان بالله لإخراجها من مرتبة الحيوانية، ورفعها الى درجة المَلَك؛
لذا فقد جثا السائح على ركبتيه بأدب جم وتوقير عظيم في أروقة تلك المدرسة
النورانية، ورأى أن بين يدي كل من أولئك الأئمة الهداة الأعلام للبشرية
معجزات وخوارق هي علائم تصديق لهم من لدن رب العالمين سبحانه.. وانه قد تكونت
طائفة عظيمة وأمة غفيرة مصدّقة من البشر دخلت حظيرة الإيمان بتبليغ كل منهم.. لذا
تمكن السائح من قياس مدى قوة التوحيد ورصانته، تلك
الحقيقة التي اتفق عليها أولئك الصادقون الذين يربون على مائة ألف.. وفهم
كذلك مدى الخطأ الجسيم والجناية الكبرى التي يرتكبها أهل الضلالة المنكرون لتلك
الحقيقة الراسخة التي تملك هذه القوة والتي صدّقها وأيدها هذا العدد من المخبرين
الصادقين وأثبتوها بمعجزاتهم التي لا تحد.. وإدرك كذلك مدى ما يستحقونه من عذاب
أليم خالد.. وعرف أيضاً مدى صواب وأحقية الذين صدقوهم وآمنوا بهم فدخلوا حظيرة
الايمان. فبدت أمامه بذلك مرتبة عظمى هائلة لقدسية الإيمان وسمو التوحيد.
نعم،إن
المعجزات التي لاحصر لها تصديق فعلي من لدن الحق سبحانه وتعالى للأنبياء
عليهم السلام، والصفعات السماوية التي نزلت بالمنكرين المعارضين لهم أظهرت
أحقيتهم وتأييد الله لهم، وكمالاتهم الشخصية وإرشاداتهم السديدة دالة على أنهم على
حق أبلج، وقوة إيمانهم وغاية جديتهم ونهاية تجردهم تشهد كلها على صدقهم وصواب
دعوتهم، وما في أيديهم من الكتب والصحف المقدسة، وتلاميذهم غير المحدودين الذين
بلغوا الحقيقة وارتقوا الى الكمال واهتدوا الى النور باتباعهم لهم، يشهد كلها على أحقية سبيلهم
وصواب طريقهم. وعلاوة على كل هذا فان إجماع أولئك المبلّغين الصادقين
في المسائل المثبتة لهو حجة قاطعة على صدق الإيمان وقوة عظيمة تعزز حقيقته بحيث لا
تستطيع قطعاً أية قوة في العالم أن تصارعها. فهي حقيقة دامغة تنحسر أمامها كل شبهة
أو ريب.
فعلم السائح
حكمة كون تصديق الرسل كافة ركناً من أركان الايمان، وكيف أنه ينبوع دفاق ومصدر قوة
عظيمة لإيمانه، فســرعان ما انكب يغترف من هذا الينبوع الثر.
وقد ذكر في
المرتبة الثامنة من المقام الأول ما يفيد معنى الدرس المذكور لهذا السائح:
[لا إله إلاّ الله الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: إجماع جميع الأنبياء،
بـقوة معجزاتهم الباهرة، المُصّدقّةِ المُصَدّقَة].
*
* *
وحينما كان
السائح الطالب الذي تذوق مذاقات سامية من قوة الإيمان وتنسم أنسام الحياة صافية
خالصة، يرجع من مجلس الأنبياء عليهم السلام. دعاه أولئك الذين أثبتوا دعاوى الأنبياء
بعلم اليقين وأقاموا الحجج الدامغة على صدقها، من العلماء المحققين والمجتهدين
المتبحرين الذين يطلق عليهم جميعاً الأصفياء والصديقون.. دعاه أولئك إلى مدارسهم
فدخل ورأى مجمعاً حافلاً يضم:
ألوفاً من
العباقرة الأفذاذ، ومئات الألوف من المدققين من أهل العلم والتحقيق وهم يقيمون
الدلائل وينصبون البراهين ويثبتون بتدقيقاتهم العميقة التي لا تدع أدنى شبهة
المسائل الإيمانية المثبتة، وفي مقدمتها وجوب وجود الخالق سبحانه ووحدانيته.
نعم إن اتفاق
أولئك العلماء الفطاحل - مع تفاوت استعداداتهم وتباين مواهبهم الفطرية واختلاف
مسالكهم - على أصول الإيمان وأركانه، مستنداً كل منهم على قوة براهينه ويقينها،
لهو حجة قاطعة لايمكن لأحد معارضتها أو دحضها أو المماراة فيها إلا إذا كان يملك
ذكاءً أحدّ وأرقى من ذكاء أولئك الفحول، وكان برهانه أقوى من براهين الجميع وحجته أبلغ
من حجتهم جميعاً !! وهذا محال. لذا لايمكن مجابهتها الاّ بالجهل والتجاهل
والإنكار، فيما لايمكن إثباته من المسائل المنفية، أو بالعناد وإغماض العين إزاء
ذلك النور. والحال أن من يغمض عينيه فقد جعل نهاره ليلاً.
ففهم السائح
أن الأنوار التي نشرها هؤلاء الأساتذة المتبحرون لهذه المدرسة السامية الشاسعة قد
أضاءت نصف الكرة الارضية خلال ألف من السنين. ووجد من هذا قوة معنوية هائلة تنصبّ
في كيانه، وتملأ جوانحه بحيث لو اجتمع أهل الإنكار وأرباب العناد جميعاً لن يقدروا
على زعزعتها ولو قيدَ شَعرةٍ. وهكذا ذكرت إشارة مختصرة في المرتبة التاسعة من
المقام الاول لما اقتبسه السائح في هذه المدرسة من دروس وعبر كما يأتي:
[لا إله إلاّ الله الذي دلّ علـى وجوب
وجوده في وحدته: اتفاقُ جميع الأصفياء، بقوة براهينهم الزاهرة المحققة المتفقة].
*
* *
وحينما كان
يؤوب ذلك المسافر المتأمل من مدرسة العلماء ألحف عليه شوق ملح إلى زيادة الإيمان
وانكشافه واستولت عليه رغبة عنيفة إلى رؤية الانوار والأذواق التي هي في طريق الإرتقاء
من درجة علم اليقين الى مرتبة عين اليقين. فدعاه ألوف وملايين " الأولياء الصالحين " المرشدين السامين الذين سعوا إلى الحقيقة، وبلغوا الحق،
ووصلوا مرتبة عين اليقين بسموهم وعروجهم تحت ظل المعراج الأحمدي وعلى أثر الرسول
صلى الله عليه وسلم في الجادة المحمدية الكبرى، دعاه هؤلاء إلى محل ذكر عظيم بهيج،
ومقام إرشاد قويم كريم، يشع فيضاً ونوراً يملأ الأرجاء كلها ويتدفق نابعاً من
تلاحق ما لا يحد من تكاياهم وزواياهم ومرابطهم فدخل ورأى أن أهل الكشف والكرامات
هؤلاء يرددون بالاتفاق والاجماع: " لاإله إلاّ هو " معلنين به وجوب وجود الرب سبحانه وتعالى، ووحدانيته، مستندين إلى
كشفياتهم وكراماتهم ومشاهداتهم.
نعم، كما
يستدل على الشمس بألوان ضيائها السبعة؛ فإن حقيقة التوحيد كذلك يصدقها هؤلاء الأفذاذ
العارفون والجهابذة المنورون بالإجماع والإتفاق، وهم يمثلون أهل الطرق المتنوعة
الصادقة وأصحاب المسالك المختلفة الصائبة وذوي المشارب العديدة الحقة الذين
اصطبغوا بسبعين لوناً، بل بعدد أسماء الله الحسنى، من الألوان المنورة المتباينة،
والأنوار الملونة المختلفة المتجلية على القلوب والآفاق من نور الأبد والأزل.
وقد شاهد
السائح تجلى تلك الحقيقة الباهرة؛ بعين اليقين. لذا رأى أن حقيقة يُجمع عليها الأنبياء
عليهم السلام، ويتفق على صدقها العلماء الأصفياء، ويتوافق معها الأولياء الصالحون
لهي حقيقة أسطع من ضوء النهار الدال على الشمس.
وهكذا ذكرت
في المرتبة العاشرة من المقام الاول إشارة مختصرة غلى ما أخذه هذا المسافر من فيض
في المرابط الصوفية وزواياهم:
[لاإله إلاّ الله الذي دلّ على وجوب وجوده
في وحدته: إجماع الاوليـاء بكشفياتهم، وكراماتهم الظـاهرة المحـققة المصدّقة].
*
* *
ثم إن ذلك
السائح أراد بكل لطائفه وقواه أن يزداد رقيّاً وسمواً في قوة الإيمان وانكشاف
معرفته لله، لعلمه بأن محبة الله الناشئة من الإيمان بالله، والمتفجرة من معرفته، هي
أعظم كمال إنساني وأهمه وأوسعه، بل هي منبع جميع الكمالات وأساسها؛ لذا رفع رأسه
ناظراً في السماوات وخاطب عقله:
ما دامت
الحياة هي أغلى شئ في الكون، والموجودات كلها مسخرة للحياة، وأن أثمن ذوي الحياة
هم ذوو الروح، وأرقى ذوي الأرواح هم ذوو الشعور.. وما دامت الكرة الأرضية - لأجل
هذه المنزلة الرفيعة - تخلى في كل عصر وفي كل سنة، وتملأ باستمرار، تكثيراً لذوي
الحياة. فلابد - ولامحالة - أن تكون لهذه السماوات العُلى المزينة، سكنتها وأهلوها
المتلائمون معها من ذوي الحياة وذوي الأرواح وذوي المشاعر. حتى نقلت روايات متواترة
تؤكد رؤية " الملائكة " والتكلم معهم منذ القديم، كتمثل جبرائيل عليه السلام في صورة إنسان
وظهوره أمام الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال السائح:
ليتني أصل إلى شرف رؤية أهل السماوات، وليتني أقف على ما عندهم حول حقيقة الإيمان
والتوحيد. لأن أهم شهادة في حق خالق الكون هي شهادتهم.. ولم يكد يتم حديثه حتى سمع
فجأة كأن هاتفاً سماوياً يقول:
" ما دمت تريد أن تلتقي معنا، وتستمع إلى درسنا، فاعلم: أن
المسائل الإيمانية التي أُنزلت بوساطتنا إلى جميع الانبياء وفي مقدمتهم محمد
صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، قد آمنا بها نحن أولاً. واعلم كذلك أن
جميع الأرواح الطيبة منا، والمتمثلة للإنسان قد شهدت كلها بلا إستثناء وبالإتفاق
على وجوب وجود خالق الكون، وعلى وحدانيته، وعلى صفاته القدسية. وأن ما أخبرت به من
أخبار كثيرة يوافق بعضه بعضاً، ويطابقه مطابقة تامة. فتوافق هذه الأخبار غير
المحدودة، وتطابقها دليل لك كالشمس " . فوعى السائح ما يقصدونه، وتألق نور إيمانه وسطع، حتى عرج صاعداً
الى السماوات.
وهكذا ذكرت إشارة
قصيرة لما أخذه هذا السائح من درس الملائكة في المرتبة الحادية عشرة من المقام
الاول:
[لاإله إلاّ
الله الواجب الوجود الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: اتـفاق الملائــكة
المتمثلين لأنظار الناس، والمتكلمين مع خواص البشر، بأخبــارهـم المتطابقة
المتوافقة].
*
* *
ثم إن ذلك
المسافر المتلهف المشتاق، بالدرس الذي تلقاه من ألسنة طوائف معينة ومن أحوالها، في
عالم الشهادة والجانب الجسماني والمادي منه، اشتاق القيام بمزيد من السياحة والأسفار
والتحري والبحث عن الحقيقة فتقدم إلى مطالعة: ما في عالم الغيب وعالم البرزخ
ايضاً. فانفتح امامه باب " العقول المستقيمة المنورة والقلوب السليمة النورانية " اللتان لاتخلو منهما طائفة من طوائف البشر، فالعقل والقلب هما بحكم نواة الإنسان
ولبّه وبفضلهما استطاع ان يصبح ثمرة الكون، ويملكان من القدرة على الإنبساط والإتساع
ما يمكنهما أن يطويا العالم كله رغم صغرهما،
فرأى السائح:
أن القلوب والعقول برازخ إنسانية بين عالمي الغيب والشهادة، فالعلاقات والعلامات
بين ذينك العالمين - بالنسبة للإنسان - تجري في تلك النقاط؛ لذا خاطب عقله وقلبه
معاً قائلاً: " أقبلا، فإن أقصر الطرق الموصلة إلى الحقـيقة هي من
بابـكما فهيا لنستفد بمطالعتنا العقول والقلوب المتصفة بالإيمان ودراستنا
كيفياتهما وألوانهما، فهذا درس لا يؤخذ من الألسنة كما هو الحال في الطرق الأخرى " . فباشر يقلب صفحات العقول وينشر صفحات القلوب ممعناً النظر
مطيلاً الفكر، فرأى أن جميع العقول المستقيمة المنورة تتفق في
العقيدة الراسخة الواضحة في الإيمان والتوحيد، وتتطابق في اليقين الجازم والإقتناع
المطمئن، رغم التباين الواسع في استعداداتها والبعد والمخالفة بين مذاهبها. أي
أنها استندت وارتبطت بعقيدة لاتتبدل، ودخلت في حقيقة عريقة لا تنـفصـم؛ لذا فـإن
إجماع هذه العقول في الإيمان،والوجوب، والتوحيد إنما هو سلسلة نورانية لاتنقطع،
ونافذة واسعة وضّاءة مطلة على الحقيقة.
ورأى كذلك أن جميع القلوب السليمة
النورانية تتوافق فيما بينها في كشفياتها ومشاهداتها - التي هي ذات اتفاق واطمئنان
وانجذاب - في أركان الايمان، وتتطابق في التوحيد، رغم تباعد مسالكها وتباين
مشاربها. أي أن كل قلب من هذه القلوب النورانية عرش صغير جداً تستوي عليها المعرفة
الربانية، وهي مرآة جامعة لأنوار التجليات الصمدانية، بما يقابل الحقيقة ويوصل
اليها، ويتمثل بها، فهي إذاً نوافذ مفتوحة تجاه شمس الحقيقة. أي أن مجموع هذه
القلوب يشكل معاً مرآة عظمى واسعة كالبحر أمام تلك الشمس.
وأن اتفاق هذه القلوب والعقول وإجماعها
في وجوب وجوده سبحانه، وفي وحدانيته لهو دليل أكمل ومرشد اكبر لايتحير ولايحيّر؛
اذ ليس هناك إمكان قط ولا إحتمال قطعاً - في أية جهة كانت - ان يخدع وهمٌ لاحقيقة
له، وفكرٌ لايمت الى الحقيقة بصلة، وصفةٌ لا اصل لها، جميع هذه العيون البصيرة
النافذة الحادة لهذه الكثرة الكاثرة من ذوي القلوب الصافية والعقول الرزينة، وان
يستمر هذا الخداع عبر قرون وبرسوخ تام ! او أن يوقعهم جميعاً في شباك التمويه
والغفلة ! فهل هناك من يجد احتمالاً كهذا غير من يحمل عقلاً فاسداً عفناً ؟ بل حتى
السوفسطائيون الحمقى الذين ينكرون الكون يردّونه ولا يرضون به !.
هكذا فهم
السائح، فقال منسجماً مع عقله وقلبه: آمنت بالله
وإشارة إلى
المعرفة الإيمانية مما استفاد هذا السائح من العقول المستقيمة والقلوب المنوّرة
ذكر في المرتبة الثالثة عشرة من المقام الأول ما يأتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود
الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: إجماع العقول المستقيمة المنوّرة، بإعتقاداتها
المتوافقة وبقناعاتها، ويقيناتها المتطابقة، مع تخالف الإستعدادات والمذاهب، وكذا
دلّ على وجوب وجوده في وحدته اتفاق القلوب السـليمة النورانية، بكشفياتها
المتطابقة وبمشاهداتها المتوافقة، مع تباين المسالك والمشارب].
*
* *
ثم إن ذلك
السائح الذي نظر إلى عالم الغيب من قريب، وتجوّل في عالمي العقل والقلب، أخذ يطرق
باب ذلك العالم بهذا النمط من التفكير: " يا ترى ماذا يقول عالم الغيب ؟ " . إذ ما دمنا نرى في عالم الشهادة الجسماني هذا، أن المحتجب
وراء ستار الغيب سبحانه يعرّف نفسه لنا بهذا القدر الهائل من مصنوعاته المزينة
المتقنة ويسوقنا إلى محبته بهذا القدر الذي لايحصى من نعمه اللذيذة الطيبة ويخبرنا
عن كمالاته الخفية بهذا القدر الزاخر من آثاره الخارقة البديعة.. نعم إن الذي
يعرّف نفسه ويحببها فعلاً وبلسان الحال الذي هو أبيَن من الكلام والتكلم؛ لابد أنه
سيتكلم قولاً وتكلماً مثلما يتكلم فعلاً وحالاً، معرّفاً نفسه ومحبباً ذاته.
لذا خاطب
السائح نفسه قائلاً: علينا أن نعرفه سبحانه من مظاهر ألوهيته وربوبيته في عالم
الغيب. فغاص قلبه في الاعماق ورأى بعين عقله:
أن حقيقة " الوحي الإلهي " مهيمنة كل حين - بظواهر في غاية القوة
والوضوح - على أرجاء عالم الغيب كافة. فتأتي الشهادة لوجوده وتوحيده سبحانه من لدن
علاّم الغيوب. وهي شهادة الوحي والإلهام وهي أقوى بكثير من شهادة الكائنات
والمخلوقات؛ إذ لا يدع سبحانه تعريف ذاته ولا دلائل وجوده ووحدانيته،
محصوراً في شهادة مخلوقاته وحدها، بل يتكلم كلاماً أزلياً يليق بذاته، فلا
حدّ ولا نهاية لكلام مَن هو حاضر وناظر بقدرته وعلمه في كل مكان. ومثلما يعرّفه معنى
كلامه، فإن تكلمه أيضاً يعرّفه بصفته
نعم، إن
تواتر مائة ألف من الأنبياء عليهم السلام وإتفاقهم في جميع إخباراتهم الصادرة من
الوحي الإلهي، ودلائل ومعجزات الكتب المقدسة والصحف السماوية التي هي الوحي
المشهود وثماره، والتي صدقتها الأكثرية المطلقة للبشرية واقتدت بها، واهتدت
بهديها.. جعل السائح يفهم بداهة أن الوحي حقيقة ثابتة لامراء فيها.وفهم
كذلك أن حقيقة الوحي تفيد خمس حقائق قدسية وتؤكدها وتنورها:
أولاه:أن
التكلم وفق مفاهيم البشر وبمستوى عقليتهم هو الذي يطلق عليه " التنزلات الإلهية إلى عقول البشر " .. نعم، إن الذي أنطق جميع ذوي الأرواح من مخلوقاته، ويعلم ما
يتكلمونه، تقتضي ربوبيته أن يصب معاني كلامه الأزلي في كلمات يتيسر للبشر أن
يتلوها بين كلامهم.
ثانيته:أن
الذي برأ الوجود معجزةً، وملأه بمعجزاته الباهرة لتُفصح عنه وجعلها ألسنةً ناطقة
بكمالاته، لابد أنه سيعرّف ذاته أيضاً بكلامه هو.
ثالثته:أن
الذي يقابل فعلاً مناجاة الناس الحقيقيين وشكرهم، وهم خلاصة الموجودات وزبدتها
وأكثرهم حاجة وأشدهم شوقاً وأرقهم لطفاً، فإن مقابلة تلك المناجاة والشكر بكلامه
سبحانه هي من شأن الخلاقية.
رابعته:أن
صفة المكالمة التي هي ضرورية لازمة وظاهرة مضيئة لصفتي " العلم " و " الحياة " لابد أنها توجد بصورة محيطة وبسرمدية خالدة عند من له علم محيط
وحياة سرمدية.
خامسته:أن
الذي فطر مخلوقاته على العجز والشوق، والفقر والحاجة، والقلق من العاقبة، ومنحهم
المحبة والعبودية حتى أصبحوا يحسون حباً شديداً وشوقاً غامراً نحو معرفة مولاهم
الحق ومالك أمرهم، ويشعرون بحاجتهم الماسة إلى قوة يستندون إليها ويُؤون إلى كنفها
- وهم يتقلبون في فقر وعجز وتوجس من العقبى- فمن مقتضى ألوهيته أن يُشعرهم وجودَه
بتكلمه سبحانه.
وهكذا فهم
السائح أن الدلائل التي تدل بالإجماع على وجود واجب الوجود، ووحدانيته سبحانه في
الوحي السماوي العام المتضمن لحقائق " التنزلات الإلهية " و " التعرف الرباني " و " المقابلة الرحمانية " و " المكالمة السبحانية " و " الإشعار الصمداني " هي حجة كبرى، بل هي أقوى من شهادة الشمس على نفسها في رابعة
النهار.
ثم نظر الى
حيث " الإلهامات " فرأى أن الإلهامات الصادقة مع أنها تتشابه - من جهة - مع الوحي،
من حيث أنها نوع من المكالمة الربانية، إلاّ أن هناك فرقين:
أولهما:
إن معظم
الوحي الذي هو أسمى وأعلى من الإلهام بكثير إنما يتم بوساطة الملائكة، بينما أغلب
الالهام يتم دون وساطة. ولإيضاح ذلك نورد المثال الآتي:
من المعلوم أن
هناك شكلين من صور التخاطب وإصدار الأوامر للسلطان:
الأول:بإسم
الدولة وعظمتها وحاكميتها وسيادتها على الجميع. فيرسل أحد مبعوثيه إلى أحد ولاته،
ويجتمع - أحياناً - معه، ومن ثم يبلّغ الأمر، وذلك إظهاراً لعظمة تلك الحاكمية وأهمية
ذلك الأمر.
الثاني:بإسمه
الشخصي، وليس بإسم السلطنة، ولا بعنوان السلطان، فيتكلم كلاماً خاصاً، بهاتفه
الخاص، في أمر خاص، وفي معاملة جزئية، مع خادمه الخاص أو مع أحد رعيته من العوام.
وكذلك كلام
سلطان الأزل سبحانه وتعالى. فله كلام بالوحي والإلهام الشامل - الذي يقوم بوظائف
الوحي - يتكلم بإسم رب العالمين، وبعنوان خالق الكون. وله ايضاً طراز آخر من
الكلام، وبشكل خاص، ومن وراء حجب واستار، مع كل فرد ومع كل ذي حياة، حسب
قابلياتهم، وذلك لكونه ربهم وخالقهم.
الفرق
الثاني:
أن
الوحي صاف، ودون ظل، خاص للخواص. أما الإلهام ففيه ظل واختلاط ألوان. وهو عام وله أشكال
متنوعة ومتفاوتة جداً؛ كإلهامات الملائكة، وإلهامات الإنسان، وإلهامات
الحيوانات. وهي بأنواعها المختلفة وأشكالها المتباينة جداً، تبين مدى سعة
وكثرة الكلمات الربانية التي تزيد على عدد قطرات البحار.. ففهم السائح من هذا
وجهاًً من تفسير الآية الكريمة: (قل لو كان البحرُ
مداداً لكلمات ربّي لَنَفِدَ البحرُ قبلَ أن تنفَدَ كلماتُ ربي..)
(الكهف: 109).
ثم نظر الى
ماهية الإلهام يستبطن سره ويتعرف على حكمته وشهادته، فرأى أن ماهيته، وحكمته،
ونتيجته، تتركب من أربعة أنوار:
النور الأول:
أنه مثلما يتودد الله سبحانه إلى مخلوقاته عن طريق أفعاله فيهم الذي يُعرف (بالتودد
الإلهي) فإن من مقتضيات الودودية والرحمانية (أي كونه
ودوداً ورحمان) أن يتحبب إليهم ويتودد قولاً وحضوراً وصحبة ايضاً.
النور
الثاني: أنه مثلما يستجيب سبحانه إلى دعاء عباده بأفعاله. فإن من شأن الرحيمية إجابته لهم
قولاً أيضاً من وراء الحجب.
النور
الثالث: أنه مثلما يمدّ سبحانه بالأفعال استمداد مخلوقاته المصابين بالبلايا
العسيرة والنوائب الشديدة واستغاثتهم وتضرعهم فإن من لازم الربوبية أن يؤنسهم
ويبدد وحشتهم فيمدّهم بأقوال إلهامية هي في حكم نوع من كلامه.
النور
الرابع: أنه مثلما يُشعر سبحانه فعلاً بوجوده وحضوره وحمايته لأرباب الشعور من
خلقه - الذين هم في عجز وضعف شديدين، وفي فقر واضطرار كبيرين، وفي أشد الحاجة
والشوق لمعرفة مالكهم وحاميهم ومدبرهم وحفيظهم - فإنه من مقتضى رأفة
الالوهية ورحمة الربانية، وضرورة لازمة لهما، أن يُشعر كذلك بحضوره ومعيّته
ووجوده، لمخلوق معين، بوجه خاص، حسب قابليته، بوساطة قسم من الإلهامات
الصادقة، قولاً إلى هاتف قلبه، مما يعدّ في حكم نوع من المكالمة الربانية.
ثم نظر
إلى شهادة الإلهام فرأى أنه لو كانت للشمس حياة وشعورٌ - فرضاً - وكانت الألوان
السبعة التي في ضيائها - فرضاً - سبع صفات لها، لكان لها إذاً نمط من التكلم بأشعتها
وتجلياتها التي في ضيائها. ففي هذه الحالة: فإن وجود صورتها وانعكاسها في الأشياء
الشفافة؛ أي تكلمها مع كل مرآة عاكسة، ومع كل شئ لماع، ومع قطع الزجاج وحباب البحر
وقطراته، حتى مع الذرات الشفافة حسب قابلية كل منها.. واستجابتها لحاجات كل منها..
كل ذلك سيكون شاهد صدق على وجود الشمس، وعلى عدم ممانعة فعل عن فعل ولا مزاحمة
كلام من كلامها لآخر..
فمثلما يشاهد
هذا بوضوح، كذلك الأمر في مكالمة سلطان الأزل والأبد ذي الجلال، وخالق جميع
الموجودات ذي الجمال، النور الأزلي، هي مكالمة كليّة ومحيطة، كعلمه سبحانه وقدرته.
لذا يدرك بداهة تجليّها الواسع حسب قابلية كل شئ، من دون أن يزاحم سؤال سؤالاً،
ولا يمنع فعل فعلاً، ولا يختلط خطاب بخطاب.
فعلم السائح
بعلم يقيني أقرب ما يكون إلى عين اليقين، أن جميع تلك التجليات والمكالمات والإلهامات
كل منها، وبمجموعها، تدل وتشهد بالإتفاق على وجوب ذلك المنّور الأزلي سبحانه، وعلى
حضوره سبحانه، وعلى وحدته، وعلى أحديته.
وهكذا ذكرت
إشارة مختصرة إلى ما تلقاه هذا السائح المتلهف من درس المعرفة من عالم الغيب في
المرتبة الرابعة عشرة والخامسة عشرة من المقام الاول:
[لا إله إلاّ
الله الواجب الوجود الواحد الاحد الذي دلّ على وجوب وجوده فـي وحدته: إجماع جميع
الوحيات الحقة المتضمنة للتنزلات الإلهية، وللمكالمات السـبحانية، وللتعرفات
الربانية، وللمقابلات الرحمانية، عند مناجاة عباده، وللإشـعارات الصمدانية لـوجوده
لمخلوقاته، وكذا دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: إتــفاق الإلهامـات الصـادقة
المتضمنة للتوددات الإلـهية، وللإجابات الرحمانية لدعوات مخلوقاته، وللإمـدادات
الربانية لإسـتغاثات عباده، وللإحسـاسـات الســبحانية لـوجوده لمصنوعاته].
*
* *
ثم خاطب ذلك
السائح في الدنيا عقله قائلاً: ما دمت أبحث عن مالكي وخالقي باستنطاق موجودات
الكون هذا. فمن الأولى لي أن أزور من هو أكمل إنسان في الوجود، وأعظم من يقود إلى
الخير - حتى بتصديق أعدائه - وأعلاهم صيتاً وأصدقهم حديثاً وأسماهم منزلة وأنورهم
عقلاً، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أضاء
بفضائله وبقرآنه أربعة عشر قرناً من الزمان.. ولأجل أن أحظى بزيارته الكريمة
وأستفسر منه عما أبحث عنه، ينبغي أن نذهب معاً إلى خير القرون.. إلى عصر السعادة..
عصر النبوة.. فدخل بعقله إلى ذلك العصر فرأى أن ذلك العصر قد صار به صلى
الله عليه وسلم عصر سعادة للبشرية حقاً. لأنه صلى الله عليه وسلم قد حول في زمن
يسير وبالنور الذي أتى به قوماً غارقين في أشد أمية، وأعرق بداوة، حوّلهم الى أساتذة
العالم وسادته.
وكذا خاطب
عقله قائلاً: " علينا قبل كل شئ أن نعرف شيئاً عن عظمة هذه الذات المعجزة، وذلك
من أحقية أحاديثه، وصدق أخباره ثم نستفسر منه عن خالقنا سبحانه " .. فباشر بالبحث. فوجد على صدق نبوته من الادلة القاطعة
الثابتة ما لايعد ولايحصى، ولكنه خلص الى تسع منها:
أوله:هو اتصافه صلى
الله عليه وسلم بجميع السجايا الفاضلة والخصال الحميدة، حتى شهد لها غرماؤه..
وظهور مئات المعجزات منه؛ كانشقاق القمر الذي انشق إلى نصفين بإشارة من أصبعه كما
نص عليه القرآن: (وانشق القمر) (القمر:1) .
وانهزام جيش الأعداء بما دخل أعينهم جميعاً من التراب القليل الذي رماه عليهم
بقبضته. كما نصت عليه الآية الكريمة: (وما رميت إذ
رميت ولكن الله رمى) (الانفال: 17) . وارتواء اصحابه من الماء النابع
كالكوثر من بين أصابعه الخمسة المباركة عندما اشتد بهم العطش.. وغيرها من مئات
المعجزات التي ظهرت بين يديه، والمنقولة إلينا نقلاً صحيحاً قاطعاً أو
متواتراً، فاستطلعها السائح إلى (المكتوب التاسع عشر) أي رسالة " المعجزات الأحمدية " تلك الرسالة الخارقة ذات الكرامة، المتضمنة لأكثر من ثلاثمائة
معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، بدلائلها القاطعة وأسانيدها الموثوقة.
ثم حدّث نفسه
قائلاً: " إن من كان ذا أخلاق حسنة بهذا القدر وفضائل إلى هذا
الحد، وذا معجزات باهرة بهذه الكثرة، فلا جرم أنه صاحب أصدق حديث .. فلا يمكن
أبداً - وحاشاه - أن يتنزل الى درك الحيلة والكذب والتمويه التي هي دأب الفاسدين " .
ثانيه:كون القرآن
الذي بيده صلى الله عليه وسلم معجزاً من سبعة اوجه، ذلك الأمر الصادر من مالك
الكون الذي يسلّم به ويصدقه أكثر من ثلاثمائة مليونٍ من البشر في كل عصر. ولما
كانت (الكلمة الخامسة والعشرون) أي رسالة " المعجزات القرآنية " وهي شمس رسائل النور قد أثبتت بدلائل قوية أن هذا القرآن
الكريم معجز من أربعين وجهاً، وانه كلام رب العالمين، لذا أحال السائح ذلك إلى
تلك الرسالة المشهورة لبيانها المفصل للإعجاز. ثم قال: إن الأمين على كلام
الله، والمترجم الفعلي له، والمبلغ لهذا النبأ العظيم إلى الناس كافة، وهو الحق
بعينه والحقيقة بذاتها، لايمكن أن يصدر منه كذب قط، ولن يكون موضع شبهة ابداً.
ثالثه:أنه صلى
الله عليه وسلم قد بعث بشريعة مطهرة، وبدين فطري، وبعبودية خالصة، وبدعاء خاشع،
وبدعوة شاملة، وبإيمان راسخ، لامثيل لما بعث به ولن يكون، وما وجد أكمل منه ولن
يوجد.
لأن " الشريعة " التي تجلّت من أميّ صلى الله عليه وسلم وأدارت خمس البشرية على
اختلافها منذ أربعة عشر قرناً إدارة قائمة على الحق والعدل بقوانينها
الدقيقة الغزيرة، لا تقبل مثيلاً ابداً.
وكذا " الإسلام " الذي صدر من أفعال مَن هو أميّ صلى الله عليه وسلم ومن أقواله،
ومن أحواله، هو رائد ومصدر ثلاثمائة مليون من البشر ومرجعهم في كل عصر، ومعلم
لعقولهم ومرشد لها، ومنوّر لقلوبهم ومهذّب لها ومربّ ٍ لنفوسهم ومزَكٍ لها، ومدار
لإنبساط أرواحهم ومعدن لسموها.. لم يأت ولن يأتي له مثيل.
وكذا تفوقه
صلى الله عليه وسلم في جميع انواع " العبادات " التي يتضمنها دينه، وتقواه العظيمة، وخشيته الشديدة من الله
ومجاهدته المتواصلة ورعايته الفائقة لأدق أسرار العبودية ضمن أشد الاحوال والظروف،
وقيامه صلى الله عليه وسلم بتلك العبودية الخالصة، دون ان يقلد أحداً وبكل معانيها
مبتدئاً، وبأكمل صورة، موصلاً الابتداء بالانتهاء..لاشك لم يُرَ ولن يُرى لها
مثيل.
وكذا فإنه
يصف، بالجوشن الكبير - الذي هو واحد من آلاف أدعيته ومناجاته - يصف ربه بمعرفة
ربانية سامية لم يبلغ العارفون والأولياء جميعاً إلى تلك المرتبة من المعرفة، ولا
الى درجة ذلك الوصف منذ القدم مع تلاحق الأفكار.. مما يظهر أنه لامثيل له في " الدعاء " . ومن ينظر إلى الإيضاح المختصر لفقرة واحدة من بين تسع وتسعين
فقرة للجوشن الكبير، وذلك في مستهل رسالة " المناجاة " لايسعه إلاّ القول إنه لامثيل لهذا الدعاء الرائع (الجوشن) الذي
يمثل قمة المعرفة الربانية.
وكذا فإن
إظهاره في " تبليغ الرسالة " وفي دعوته الناس الى الحق من الصلابة والثبات والشجاعة ما لا
يقاربها أحد. فلم يداخله - ولو بمقدار ذرة - أي أثرٍ للتردد ولا ساوره قلق قط، ولم
ينل الخوف منه شيئاً، رغم معاداة الدول الكبرى والأديان العظمى له حتى ناصبه قومه
وقبيلته وعمه العداء الشديد، فتحدى وحده الدنيا بأسرها حتى نصره الله وأعزّه، فكلل
هامة الدنيا بتاج الإسلام.. فمَن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالات
الله ؟..
وكذا حمله " إيماناً قوياً راسخا " ويقيناً جازماً خارقاً، ونمواً للفطرة معجزاً، واعتقاداً سامياً
ملأ العالم نوراً. فلم تتمكن أن تؤثر فيه جميع الأفكار والعقائد وحكمة الحكماء
وعلوم الرؤساء الروحانيين السائدة في ذلك العصر، ولو بشبهة أو بتردد أو بضعف أو
بوسوسة. نعم، لم تتمكن أن تؤثر لا في يقينه ولا في اعتقاده ولا في
اعتماده على
الله ولا في اطمئنانه اليه، مع معارضتها له ومخالفتها إياه، وإنكارها عليه. زد على
هذا استلهام جميع الذين ترقوا في المعنويات والمراتب الإيمانية من أهل الولاية
والصلاح، وفي مقدمتهم الصحابة الكرام، واستفاضتهم دوماً من مرتبته الإيمانية،
ورؤيتهم له انه في أسمى الدرجات والمراتب. كل ذلك يظهر بداهة أن إيمانه صلى الله
عليه وسلم لا مثيل له ايضاً.
ففهم السائح،
وصدّق عقله أن مَن كان صاحب هذه الشريعة السمحاء التي لا مثيل لها، والإسلام
الحنيف الذي لاشبيه له، والعبودية الخالصة التي لانظير لها، والدعاء البديع
الرائع، والدعوة الكونية الشاملة والإيمان المعجز، لن يكون عنده كذب قط، ولن يكون
خادعاً مطلقاً.
الدليل
الرابع: اجماع الأنبياء
عليهم السلام واتفاقهم على الحقائق الإيمانية نفسها هو دليل قاطع على وجود الله
سبحانه وعلى وحدانيته، وهو شهادة صادقة ايضاً على صدق هذا النبي صلى الله عليه
وسلم وعلى رسالته، ذلك لأن كل مايدل على صدق نبوة أولئك الأنبياء عليهم السلام،
وكل ما هو مدارٌ لنبوتهم من الصفات القدسية، والمعجزات، والمهام التي اضطلعوا بها
توجد مثلها وبأكمل منها فيه صلى الله عليه وسلم، كما هو مصدّقٌ تاريخاً. فأولئك الأنبياء
عليهم السلام قد أخبروا بلسان المقال - أي بالتوراة والإنجيل والزبور والصحف التي بين أيديهم - بمجئ هذه الذات المباركة وبشروا الناس بقدومه صلى الله
عليه وسلم (حتى أن اكثر من عشرين إشارة واضحة ظاهرة من الإشارات المبشرة لتلك
الكتب المقدسة قد بُينت بياناً جلياً واثبتت في ( رسالة المعجزات الاحمدية)
فكما أنهم قد بشروا بمجيئه صلى الله عليه وسلم فإنهم يصدّقونه صلى الله عليه وسلم
بلسان حالهم -
أي بنبوتهم
وبمعجزاتهم -
ويختمون
بالتأييد على صدق دعوته اذ هو السابق الأكمل في مهمة النبوة والدعوة الى الله،
فأدرك السائح أنهم مثلما يدلّون - أي أولئك الأنبياء
- بلسان المقال
وبالإجماع على الوحدانية، فإنهم يشهدون - بلسان الحال وبالإتفاق كذلك - على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
الدليل
الخامس: إن وصول
آلاف الأولياء إلى الحق والحقيقة، وما نالوا من الكمالات والكرامات وما فازوا من
الكشفيات والمشاهدات ليس الاّ بالإقتداء بهدي دساتير هذا النبي الكريم صلى الله
عليه وسلم وبتربيته، وباتباعه وتعقب أثره، فمثلما أنهم يدلّون جميعاً على
الوحدانية فهم يشهدون بالإجماع والإتفاق على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه
وسلم - أستاذهم وإمامهم - وعلى أحقية رسالته. فرأى السائح أن مشاهدة هؤلاء
قسماً مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من عالم الغيب بنور الولاية ورؤيتهم لجميع
ما أخبر به بنور الإيمان، واعتقادهم به وتصديقهم له - إما بعلم اليقين أو بعين
اليقين أو بحق اليقين - إنما تُظهر ظهوراً كالشمس مدى صدق مرشدهم الأعظم ومدى صواب
رائدهم الأكبر صلى الله عليه وسلم.
الدليل
السادس: أن ملايين
العلماء المدققين الأصفياء، والمحققين الصديقين، ودهاة الحكماء المؤمنين، ممن
بلغوا أعلى المراتب بفضل ما درسوا وتتلمذوا على ما جاء به هذا النبي الكريم صلى
الله عليه وسلم - مع كونه أمياً - من الحقائق القدسية، وما نبع منها من العلوم
العالية، وما كشفت عنه من المعرفة الإلهية.. إن هؤلاء جميعاً مثلما يثبتون
الوحدانية التي هي الأساس لدعوته صلى الله عليه وسلم ويصدقونها متفقين - ببراهينهم
القاطعة - فإنهم يتفقون كذلك ويشهدون على صدق هذا المعلم الأكبر وصواب هذا الأستاذ
الأعظم وعلى أحقيّة كلامه صلى الله عليه وسلم. فشهادتهم هذه حجة واضحة كالنهار على
صدقه وصواب رسالته. وما رسائل النور بأجزائها التي تزيد على المائة -
مثلاً- إلاّ برهان واحد فقط على صدق وصواب هذا النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم.
الدليل
السابع: أن الجمع
العظيم الذين يطلق عليهم " الآل والأصحاب " الذين هم أشهر بني البشر بعد الأنبياء، فراسةً وأكثرهم درايةً، وأسماهم
كمالاتٍ، وأفضلهم منزلة، وأعلاهم صيتاً، وأشدهم اعتصاماً بالدين، وأحدّهم
نظراً .. ففهم السائح أن تحري هؤلاء وتفتيشهم وتدقيقهم لجميع ما خفي وما ظهر من أحوال
هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأفكاره وتصرفاته بحثاً بكمال اللهفة والشوق،
وبغاية الدقة، وبمنتهى الجدية، ثم تصديقهم بالإتفاق والإجماع أنه صلى الله عليه
وسلم أصدق مَن في الدنيا حديثاً، وأسماهم مكانة، وأشدهم اعتصاماً بالحق والحقيقة، فتصديقهم
هذا الذي لايتزعزع مع ما يملكون من إيمان عميق، إنما هو دليل باهر كدلالة النهار
على ضياء الشمس.
الدليل
الثامن:كما أن هذا
الكون يدل على صانعه وكاتبه، ومصّوره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتبه، ويتصرف فيه
بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ أو كأنه كتاب كبير أو كأنه معرض
بديع أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لامحالة وجود من يعبّر عما في هذا
الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلم ويُعلّم
المقاصد
الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس
نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات. أي يقتضي
داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، واستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً، فأدرك
السائح أن الكون - من حيث هذا الإقتضاء - يدل ويشهد على صدق هذا النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم وصوابه الذي هو أفضل من أتم هذه الوظائف والمهمات وعلى كونه
أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين.
الدليل
التاسع: ما دام
هناك وراء الحجاب من يشهر كمال بديعيته وإتقانه، بمصنوعاته هذه؛ ذات الإتقان
والحكمة.. ويعرّف نفسه ويوددها، بمخلوقاته غير المحدودة، ذات الزينة والجمال..
ويُوجب الشكر والحمد له، بنعمه التي لاتحصى، ذات اللذة والنفاسة.. ويشوق الخلق إلى
العبادة نحو ربوبيته بعبودية تتسم بالحب والإمتنان والشكر إزاء هذه التربية
والإعاشة العامة، ذات الشفقة والحماية (حتى إنه يهئ أطعمة وضيافات ربانية
تُطمئن أدق أذواق الأفواه وجميع أنواع الإشتهاء).. ويُدين الخلق إلى الإيمان
والتسليم والإنقياد والطاعة نحو ألوهيته التي يظهرها بتبديل المواسم، وتكوير
الليل على النهار، واختلافهما وأمثالها من التصرفات العظيمة، والإجراءات الجليلة،
والفعالية المدهشة والخلاقية الحكيمة.. ويُظهرُ عدالته وحقانيته بحمايته
دوماً البر والأبرار وإزالته الشر والأشرار ومحقه الظالمين والمكذبين وإهلاكهم
بنوازل سماوية. فلا جرم، أن أحب مخلوق لدى ذلك المتستر بالغيب، وأصدق عبد له هو
مَن كان عاملاً عملاً خالصاً لمقاصده المذكورة آنفاً، ومَن يحل السر الاعظم في خلق
الكون ويكشف لغزه، ومن يسعى دوماً باسم خالقه ويستمد القوة منه ويستعين به وحده في
كل شئ فينال المدد والتوفيق منه سبحانه. ومن ذا يكون هذا غير محمد القرشي صلى
الله عليه وسلم.
ثم
خاطب السائح عقله: لما كانت هذه الحقائق التسع شاهدة إثبات على صدق هذا النبي
الكريم صلى الله عليه وسلم فلا ريب إذن أنه قطب شرف البشرية، ومدار افتخار العالم،
وأنه حري و لائق جداً تسميته شرف بني آدم، وتلقيبه بفخر العالمين. وأن ما
في يده من أمر الرحمن وهو القرآن الكريم المهيمن جلال سلطانه المعنوي على نصف الأرض
مع ما يملك من كمالاته الشخصية وخصاله السامية يظهران أن أعظم إنسان في الوجود
هو هذا النبي العظيم، فالقول الفصل إذن بحق خالقنا سبحانه هو قوله صلى الله عليه
وسلم.
فتعال ياعقلى
وتأمل!. إن أساس
جميع دعاوى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وغاية حياته كلها، هي الشهادة
على وجود واجب الوجود، والدلالة على وحدانيته، وبيان صفاته الجليلة، وإظهار أسمائه
الحسنى، وإثبات كل ذلك، وإعلانه وإعلامه؛ استناداً إلى ما في دينه من ألوف الحقائق
الراسخة الأساس وإلى قوة ما أظهره الله على يده مئات من معجزاته القاطعة الباهرة.
أي أن الشمس
المعنوية التي تضئ هذا الكون والبرهان النيّر على وجود خالقنا سبحانه ووحدانيته،
هو هذا النبي الكريم الملقب ب " حبيب الله " صلى الله عليه وسلم فهنالك ثلاثة انواع من الاجماع عظيمة
لا تَغفل ولا تُغفِل، تؤيد شهادته وتصدّقها:
الإجماع الأول: إجماع
الذين اشتهروا، وتميزوا في العالم باسم " آل محمد " عليه وعلى آله الصلاة والسلام. تلك
الجماعة النورانية التي يتقدمها الإمام علي رضي الله عنه الذي قال: " لو رُفع الحجاب ما ازددت يقين " ، وخلفه آلاف الأولياء العظام من ذوي البصائر الحادة والنظر
الثاقب للغيب من أمثال الشيخ الكيلاني (قدس سره) الذي كان يعاين ببصيرته النافذة
العرش الأعظم واسرافيل بعظمته وهو بعدُ على الارض.
الإجماع
الثاني: اجماع
تلك الجماعة المعروفة بالصحابة الكرام المشهورين في العالم رضي الله عنهم
اجمعين، وتصديقهم بالإتفاق وبإيمان راسخ قوي لهذا النبي الكريم صلى الله عليه
وسلم حتى ساقهم ذلك إلى التضحية والفداء بأرواحهم وأموالهم وآبائهم وعشيرتهم، وهم
الذين كانوا قوماً بدواً يقطنون في محيط أميّ خالٍ من مظاهر الحياة الإجتماعية والأفكار
السياسية، ليس لهم هدى ولا كتاب منير. وكانوا مغمورين في ظلمة عصر الفترة، فصاروا
في زمن يسير أساتذة مرشدين وسياسيين وحكاماً عادلين لأرقى الأمم حضارة
وعلماً واجتماعاً وسياسةً،فحكموا العالم شرقاً وغرباً ورفرفت رايات عدالتهم براً
وبحراً.
الإجماع
الثالث: هو
تصديق الجماعة العظيمة من العلماء الأجلاء الذين لايعدون ولايحصون
المتبحرين في علومهم والمحققين المدققين الذين نشأوا في أمته وسلكوا مسالك شتى
ولهم في كل عصر آلاف من الحائزين على قصب السبق بدهائهم في كل علم. فتصديق هؤلاء
جميعاً له بالإتفاق وبدرجة علم اليقين إجماع أي إجماع!..
فحكم السائح
بأن شهادة هذا النبي الأمي على الوحدانية ليست شهادة شخصية وجزئية، بل هي شهادة
عامة وكلية راسخة لاتتزعزع، ولن تستطيع أن تجابهها الشياطين كافة في أية جهة
ولو اجتمعوا عليها.
وهكذا ذكرت
إشارة مختصرة لما تلقاه ذلك السائح الذي جال بعقله في عصر السعادة جوانب الحياة من
تلك المدرسة النورانية في المرتبة السادسة عشرة من المقام الأول كالآتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود
الواحدُ الاحدُ الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: فخرُ عالمٍ وشرف نوع بنـي آدم،
بعظمة سلطنةِ قرآنه، وحشمةِ وسعةِ دينهِ، وكثرةِ كمالاته، وعلويّة أخلاقه، حتى
بتصديق أعـدائهِ. وكذا شهد وبرهن بقوةِ مئـات المعجزات الظاهرات الباهرات
المُصَّدقةِ، وبقوة آلاف حقائق دينه الساطعة القاطعة، بإجماع آله ذوي الانوار، وبإتفاق
أصحابه ذوي الأبصـار، وبتوافق مُحَقِقي أمتهِ ذوي البراهين والبصائر النّـوارة].
*
* *
ثم إن السائح
الذي لا يناله تعب ولاشبع والذي علم أن غاية الحياة في هذه الدنيا بل حياة
الحياة إنما هو الإيمان، حاور هذا السائح قلبه قائلاً:
إن
كلام من نبحث عنه هو أشهر كلام في هذا الوجود وأصدقه وأحكمه، وقد تحدى في كل عصر
من لا ينقاد إليه، ذلك القرآن الكريم ذو البيان المعجز.. فلنراجع إذاً
هذا الكتاب الكريم، ولنفهم ماذا يقول.. ولكن لنقف لحظة قبل دخولنا هذا العالم
الجميل لنبحث عما يجعلنا نستيقن أنه كتاب خالقنا نحن.. وهكذا باشر بالتدقيق
والبحث.
وحيث أن هذا
السائح من المعاصرين فقد نظر أولاً الى رسائل النور التي هي لمعات الإعجاز
المعنوي للقرآن الكريم، فرأى أن هذه الرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة هي
بذاتها تفسير قيّم للآيات الفرقانية إذ إنها تكشف عن نكاتها الدقيقة وأنوارها
الزاهية.
ورغم أن
رسائل النور قد نشرت الحقائق القرآنية بجهاد متواصل إلى الآفاق كافة، في هذا العصر
العنيد الملحد، لم يستطع أحد أن يعارضها أو ينقدها، مما يثبت ان القرآن الكريم
الذي هو رائدها ومنبعها ومرجعها وشمسها، انما هو سماوي من كلام الله
رب العالمين، وليس بكلام بشر. حتى أن " الكلمة الخامسة والعشرين " وختام " المكتوب التاسع عشر " وهما حجة واحدة من بين
مئات الحجج، تقيمها رسائل النور لبيان إعجاز القرآن، فتثبته بأربعين وجهاً،
إثباتاً حيّر كل من نظر اليها، فقدّرها وإعجب بها - ناهيك عن أنهم لم ينقدوها ولم
يعترضوا عليها قط - بل أثنوا عليها كثيراً.
هذا وقد أحال السائح إثبات وجه الاعجاز للقرآن الكريم، وأنه
كلام الله سبحانه حقاً إلى "
رسائل
النور
" إلاّ انه أنعم النظر في بضع نقاط تبين بإشارة مختصرة عظمة القرآن
الكريم:
النقطة
الأولى: مثلما أن القرآن الكريم بكل معجزاته
وحقائقه الدالة على أحقيته هو معجزة لمحمد صلى الله
عليه وسلم، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم
بكل معجزاته ودلائل نبوته وكمالاته العلمية معجزة أيضاً للقرآن الكريم وحجة قاطعة
على أن القرآن الكريم كلام الله رب العالمين.
النقطة
الثانية: أن القرآن الكريم قد بدل الحياة
الاجتماعية تبديلاً هائلاً نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلاباً
عظيماً سواء في نفوس البشر وقلوبهم، أو في أرواحهم وعقولهم، أو في حياتهم الشخصية
والإجتماعية والسياسية، وأدام هذا الإنقلاب وأداره، بحيث إن آياته البالغة ستة
آلاف وستمائة وستاً وستين آية تُتلى منذ أربعة عشر قرناً في كل آن بألسنة أكثر من
مائة مليون شخص في الأقل بكل إجلال واحترام، فيربي الناس ويزكي نفوسهم، ويصفي
قلوبهم، ويمنح الأرواح إنكشافاً و رقياً، والعقول إستقامة ونوراً، والحياة حياةً
وسعادة. فلا شك أنه لا نظير لمثل هذا الكتاب ولاشبيه له ولامثيل. فهو خارق، وهو معجزة.
النقطة
الثالثة: إن القرآن الكريم قد أظهر بلاغة أيما
بلاغة، منذ ذلك العصر إلى زماننا هذا، حتى إنه حطّ من قيمة " المعلقات السبع " المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء، كتبت
بالذهب وعُلّقت على جدران الكعبة، حتى إن ابنة "
لبيد " أنزلت
قصيدة أبيها من على جدار الكعبة قائلة: "أما وقد جاءت الآيات فليس لمثلك هنا مقام "
.
وكذا عندما
سمع أعرابيٌّ أديب الآية الكريمة: (فاصْدَع بما
تُؤمَر) (الحجر: 94) خرّ ساجداً فقيل له: - أأسلمتَ ؟
قال: - لا،
بل سجدت لبلاغة هذه الآية.
وكذا، فان
آلافاً من أئمة البلاغة وفحول الأدب، أمثال: عبد القاهر الجرجاني ، والسكاكي ، والزمخشري ، قد اقرّوا بالإجماع والإتفاق: "
أن بلاغة القرآن فوق طاقة
البشر ولايمكن أن تُدرك "
.
وكذا، فإن
القرآن الكريم منذ
نزوله - وما زال - يتحدى كل مغرور ومتعنت من الأدباء والبلغاء،
وينال من عتوهم وتعاليهم، تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله.. أو أن يرضوا بالهلاك
والذل في الدنيا والآخرة...
وبينما يعلن
القرآن تحديه هذا، إذا ببلغاء ذلك العصر العنيدين قد تركوا السبيل القصيرة وهي
المضاهاة والمعارضة والإتيان بسورة من مثله، سالكين السبيل الطويلة، سبيل الحرب
التي تأتي بالويل والدمار على الأرواح والأموال، مما يثبت اختيارهم هذا أنه لا
يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة.
وكذا، ففي
متناول الأيدي ملايين الكتب العربية التي كتبها أولياء القرآن بشغف اقتباس اسلوبه
وتقليده أو كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كتب ويكتب، مع
التقدم والرقي في الاسلوب الناشئ من تلاحق الافكار - ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن -
لايمكن أن يضاهي أو يدانى أيّ منها أسلوب القرآن، حتى لو استمع رجل عامي لما يتلى
من القرآن الكريم لاضطر إلى القول: إن هذا القرآن لايشبه أياً من هذه الكتب، ولن
يستطيع إنسان كائنا من كان، ولا كافر، ولا أحمق أن يقول: إنها أسفل الجميع، فلابد إذاً
ان مرتبة بلاغته فوق الجميع.
حتى قد تلا
أحدهم الآية الكريمة: (سَبَّحَ لله ما في الَّسمواتِ
والارضِ ) (الحديد:1) ثم قال:
- " إني لا أرى الوجه المعجز الذي ترونه في بلاغة هذه الآية
الكريمة ".
فقيل له: " عدْ بخيالك - كهذا السائح - إلى ذلك العصر واستمع إليها هناك ".
وبينما هو
يتخيل نفسه هناك فيما قبل نزول القرآن الكريم، إذا به يرى أن موجودات العالم ملقاة
في فضاء خالٍ شاسع دون حدود، في دنيا فانية زائلة، وهي في حالة يائسة مضطربة تتخبط
في ظلمة قاتمة، وهي جامدة دون حياة وشعور، وعاطلة دون وظيفة ومهام. ولكن حالما أنصت
إلى هذه الآية الكريمة وتدبر فيها إذا به يرى أن هذه الآية قد كشفت حجاباً
مسدلاً عن وجه الكون وعن وجه العالم كله حتى بان ذلك الوجه مشرقاً ساطعاً، فألقى
هذا الكلام الأزلي والامر السرمدي درساً على جميع أرباب المشاعر المصطفين حسب
العصور كلها ومظهراً لهم:
أن هذا الكون بحكم مسجد كبير، وأن جميع المخلوقات - ولاسيما
السموات والارض - منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكل
وظائفهم بكل شوق ونشوة، وهم ينجزونها بكل سعادة وإمتنان..
هكذا شاهد السائح سريان مفعول هذه
الآية الكريمة في الكون، فتذوق مدى سمو بلاغتها، وقاس عليها سائر الآيات الكريمة،
فأدرك السر في هيمنة بلاغة القرآن الفريدة لنصف الارض وخمس البشرية، وعلم حكمة
واحدة من آلاف الحكم لديمومة جلال سلطان القرآن الكريم بكل توقير وتعظيم على مدى
أربعة عشر قرناً من الزمان دون إنقطاع.
النقطة
الرابعة: إن القرآن
الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات أصالة وحقيقة بحيث إن التكرار الكثير -
المسبب للسآمة حتى من أطيب الأشياء - لايورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد
ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته. وهذا أمر مسلّم به عند الجميع
منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال.
وكذا فقد
أظهر القرآن الكريم من الطراوة والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها
وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرناً من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول
عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شاباً نضراً وكأنه يخاطبه. وكل طائفة
علمية مع انهم يجدونه في متناول ايديهم وينهلون منه كل حين ويقتفون أثر اسلوب
بيانه، يرونه محافظاً دائماً على الجدة نفسها في اسلوبه والفتوة عينها في طُرز
بيانه.
النقطة
الخامسة: إن القرآن
الكريم قد بسط أحد جناحيه نحو الماضي والآخر نحو المستقبل، فالحقيقة التي اتفق
عليها الأنبياء السابقون هي جذر القرآن وأحد جناحيه، فهو يصدقهم ويؤيدهم، وهم
بدورهم يؤيدونه ويصدقونه بلسان حال التوافق.
وكذلك فإن الأولياء
الصالحين والعلماء الأصفياء هم ثمار استمدت الحياة من شجرة القرآن الكريم،
فتكاملهم الحيوي يدل أن شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء وذات فيض دائم وذات
حقيقة وأصالة. فالذين انضووا تحت حماية جناحه الثاني، وعاشوا في ظلاله من أصحاب
جميع الطرق الحقة للولاية، وأرباب جميع العلوم الحقة للإسلام يشهدون أن القرآن
هو عين الحق ومجمع الحقائق، ولامثيل له في جامعيته وشموليته، فهو معجزة
باهرة.
النقطة
السادسة: إن الجهات
الست للقرآن الكريم منورة مضيئة، مما يُبين صدقه وعدله.
نعم، فمن
تحته أعمدة الحجج والبراهين، وعليه تتألق سكة الاعجاز، وبين يديه - هدفه - هدايا
سعادة الدارين، ومن خلفه - أي نقطة إستناده - حقائق الوحي السماوي، وعن يمينه
تصديق ما لايحد من أدلة العقول المستقيمة، وعن يساره الإطمئنان الجاد والإنجذاب
الخالص والإستسلام التام للقلوب السليمة والضمائر الطاهرة.
وإذ تثبت -
تلك الجهات الست - أن القرآن الكريم حصن حصين سماوي في الأرض لايقوى على خرقه خارق
ولاينفذ من جداره نافذ، هناك أيضاً ستة " مقامات " تؤكد أنه الصدق بذاته والحق بعينه، وأنه ليس بكلام بشر قط، وأنه
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأول تلك
المقامات تأييد مصرّف هذا الكون ومدبّره له، الذي اتخذ إظهار الجميل وحماية
البر والصدق ومحق الخداعين وازالة المفترين، سنة جارية لفعاليته سبحانه، فأيَّد
سبحانه وصدَّقَ هذا القرآن بما منحه من مقام إحترام وتعظيم وأولاه من مرتبة
توفيق وفلاح هو أكثر قبولاً وأعلى مرتبة وأعظم هيمنة في العالم.
وكذا فان الإعتقاد
الراسخ والتوقير اللائق من الذات المباركة صلى الله عليه وسلم نحو القرآن الكريم
يفوق الجميع وهو منبع الإسلام وترجمان القرآن، وكونه بين اليقظة والنوم حينما
يتنزل عليه الوحي فيتنزل عليه دون إرادته، وعدم بلوغ سائر كلامه شأوه، بل عدم
مشابهته له رغم أنه أفصح الناس، وبيانه - بهذا القرآن - بياناً غيبياً لما مضى من
الحوادث الكونية الواقعة ولما ستأتي منها مع أميته، من دون تردد وبكل إطمئنان.
وعدم ظهور أية حيلة أو خطأ أو ما شابهها من الأوضاع منه مهما صغرت رغم أنه بين
أنظار أشد الناس انعاماً لتصرفاته.. فإيمان هذا الترجمان الكريم والمبلغ العظيم
صلى الله عليه وسلم وتصديقه بكل قوته لكل حكم من أحكام القرآن الكريم، وعدم زعزعة أي
شئ له مهما عظم يؤيد ويؤكد أن القرآن سماوي وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم.
وكذا فإن ارتباط
خمس البشرية، بل الشطر الأعظم منهم بذلك القرآن الكريم المشاهد أمامهم، إرتباط
انجذاب وتدين، واستماعهم إليه بجد وشوق ولهفة، وتوافد الجن والملك والروحانيين إليه
و إلتفافهم حوله عند تلاوته إلتفاف الفراشة العاشقة للنور بشهادة أمارات ووقائع
وكشفيات صادقة كثيرة.. كل ذلك تصديق بأن هذا القرآن هو محل رضى الكون وإعجابه،
وأن له فيه أسمى مقام واعلاه.
وكذا فإن أخذ كل
طبقة من طبقات البشر ابتداءً من الغبي الشديد الغباء والعامي، إلى الذكي الحاد
الذكاء والعالم نصيبها كاملة من الدروس التي يلقيها القرآن الكريم،و تفهمهم منه أعمق
الحقائق، واستنباط جميع الطوائف من علماء مئات العلوم والفنون الإسلامية، وبخاصة
مجتهدي الشريعة السمحة ومحققي أصول الدين وعباقرة علم الكلام وأمثالهم، واستخراجهم
الأجوبة الشافية لما يحتاجونه من المسائل التي تخص علومهم من القرآن الكريم، إنما
هو تصديق بأن القرآن الكريم هو منبع الحق ومعدن الحقيقة.
وكذا فإن عدم
معارضة أدباء العرب الذين هم في المقدمة في الأدب ولاسيما الذين لم يدخلوا الإسلام
- مع رغبتهم الملحة في المعارضة - وعجزهم عجزاً تاماً أمام وجه واحد - وهو الوجه
البلاغي - من بين وجوه إعجاز القرآن السبعة الكبرى، وعجزهم عن الإتيان
بسورة واحدة فقط من سور القرآن الكريم، وصدودهم عن ذلك، وعدم معارضته ممن أتى
من مشاهير البلغاء وعباقرة العلماء لحد الآن لأي وجه من وجوه الإعجاز - مع
رغبتهم في ذيوع صيتهم بالمعارضة - وسكوتهم عاجزين عن ذلك، لهو حجة قاطعة على ان
القرآن الكريم معجزة وفوق طاقة البشر.
نعم إن قيمة الكلام وعلوه وبلاغته
تتوضح في بيان: " مَن قاله ؟
ولمن قاله ؟ ولِمَ قاله ؟ " .
وبناء على
هذا فإن القرآن الكريم لم يأت ولن يأتي مثله ولن يدانيه شئ قط؛ ذلك لأن القرآن
الكريم إنما هو خطاب من رب العوالم جميعاًً وكلام من
خالقها، وهو مكالمة
لايمكن تقليدها - بأي جانب من الجوانب - وليس فيه أمارة تومئ بالتصنع. ثم إن
المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعاً، وهو أكرم من أصبح
مخاطباًً وأرفعهم ذكراً، وهو الذي ترشح الإسلام العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى
عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى فنزل مكللاً بالمخاطبة الصمدانية. ثم إن
القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضح غايات خلق الكون،
وما فيه من المقاصد الربانية موضحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الإيمان
السامي الواسع الذي يضم الحقائق الإسلامية كلها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا
الكون الهائل ومقلباًً إياه كمن يقلب خارطة أو ساعة أمامه. معلّماً الإنسان
صانعه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته، فلاريب ولابد أنه
لايمكن الإتيان بمثل هذا القرآن أبداً، ولايمكن مطلقاً أن تنال درجة إعجازه.
وكذا فإن الآلاف
من العلماء الأفذاذ الذين قام كل منهم بكتابة تفسير للقرآن الكريم في مجلدات
بلغ قسم منها ثلاثين أو أربعين مجلداًً بل سبعين مجلداً، وبيانهم بأسانيدهم
ودلائلهم لما في القرآن الكريم مما لايحد من المزايا السامية والنكات البليغة
والخواص الدقيقة والأسرار اللطيفة والمعاني الرفيعة والإخبارات الغيبية الكثيرة بأنواعها
المختلفة، وإظهار كل هؤلاء لتلك المزايا وإثباتهم لها دليل قاطع على أن القرآن
الكريم معجزة إلهية خارقة وبخاصة إثبات كل كتاب من كتب رسائل النور البالغة
مائة وثلاثين كتاباً لمزية من مزايا القرآن الكريم ولنكتة من نكاته البديعة
إثباتاً قاطعاً بالبراهين الدامغة، ولاسيما رسالة " المعجزات القرآنية " و " المقام الثاني من الكلمة العشرين " الذي يستخرج كثيراً من خوارق الحضارة من القرآن الكريم أمثال
القطار والطائرة. و " الشعاع الاول " المسمى " بـالاشارات القرآنية " الذي يبين إشارات آيات إلى رسائل النور وإلى الكهرباء، والرسائل
الصغيرة الثمانية المسماة " بالرموز الثمانية " التي تبين مدى الانتظام الدقيق في حروف القرآن الكريم، وكم هي ذات
اسرار ومعان غزيرة، والرسالة الصغيرة التي تبين خواتيم سورة الفتح وتثبت إعجازها
بخمسة وجوه من حيث الإخبار الغيبي، وأمثالها من الرسائل.. فإن إظهار كل جزء من
أجزاء رسائل النور لحقيقة من حقائق القرآن الكريم، ولنور من أنواره كل ذلك تصديق
وتأكيد بأن القرآن الكريم ليس له مثيل، وأنه معجزة وخارقة، وأنه لسان الغيب في
عالم الشهادة هذا، وأنه كلام علام الغيوب.
وهكذا، لأجل هذه المزايا والخواص
للقرآن الكريم التي أشير إليها في ست نقاط، وفي ست جهات، وفي ستة مقامات، دامت
حاكميته النورانية الجليلة وسلطانه المقدس المعظم، بكمال الوقار والإحترام مضيئة
وجوه العصور ومنورة وجه الارض أيضاً، طوال ألف وثلاثمائة سنة. ولأجل تلك الخواص أيضاً
نال القرآن الكريم ميزات قدسية حيث أن لكل حرف من حروفه عشرة أثوبة وعشر حسنات في
الأقل، وعشر ثمار خالدة، بل إن كل حرف من حروف قسم من الآيات والسور يثمر مائة أو
ألفاً أو أكثر، من ثمار الآخرة، ويتصاعد نور كل حرف وثوابه وقيمته في الأوقات
المباركة من عشرة إلى المئات.. وأمثالها من المزايا القدسية قد فهمها سائح العالم، فخاطب قلبه
قائلاً:
- حقاً أن
هذا القرآن الكريم المعجز في كل ناحية من نواحيه قد شهد بإجماع سوره وبإتفاق
آياته، وبتوافق أسراره وأنواره، وبتطابق ثماره وآثاره، شهادةً ثابتة بالدلائل على
وجود واجب الوجود، وعلى وحدانيته سبحانه، وعلى صفاته الجليلة، وعلى أسمائه الحسنى،
حتى ترشحت الشهادات غير المحدودة لجميع أهل الايمان من تلك الشهادة.
وهكذا، فقد
ذكرت في المرتبة السابعة عشرة من المقام الأول إشارة قصيرة لما تلقاه السائح، من
درس التوحيد والإيمان من القرآن الكريم:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود
الواحد الأحد الذي دلّ على وجوب وجـوده في وحدتهِ: القرآن المعجز البيان، المقبول
ُ المرغوبُ لأجناس المَلَك والإنس والجان، المقروء كل آياته في كل دقيقة بكمال الإحترام،
بألسنة مئات الملايين من نوع الإنسان، الدائم سلطنته القدسية على أقطار الأرض والأكوان،
وعلـى وجوه الأعصار والزمان، والجاري حاكميته المعنوية النورانية على نصف الأرض
وخُمس البشر في أربعة عشـر عصراً بكمال الإحتشام.. وكذا شَهدَ وبرهن بإجماع سـورهِ
القدسية السماوية، وبـاتفاق آيـاته النورانية الإلهية، وبتوافق أسراره وأنواره
وبتطابق حقائقه وثمراته وآثاره بالمشـاهدة والعيان].
*
* *
ثم إن السائح والمسافر المذكور قد علم يقيناً أن الإيمان الذي توصل اليه هو أعظم رأس مال الانسان؛ إذ لايملّكه - وهو الفقير - مزرعة فانية ومسكناً مؤقتاً، بل يملّكه الكون العظيم، ويجعله لائقاً ليظفر بملك واسع باقٍ أوسع من الدنيا، و يوجد له - وهو الإنسان الفاني - لوازم حياة أبدية خالدة؛ فينقذه - وهو المسكين المنتظر لمشنقة الأجل - من النهاية المرعبة والأعدام الابدي، فاتحاً له خزائن السعادة السرمدية، لذا خاطب السائح نفسه قائلاً:
" هيا تقدمي ! لنفز مرتبة أخرى من مراتب الإيمان التي لايحصرها حد..
فلنطلع على مجموع الكون، ولننصت إليه لنرى ماذا يقول هو أيضاً، كي نضفي نوراً على
تلك الدروس التي تلقيناها من أركان الكون وأجزائه " .
فنظر السائح إلى
مجموع الكون بمنظار واسع محيط قد استعاره من القرآن الكريم، فرأى أن هذا الكون
منظم تنظيماً بديعا، ومنطوٍ على معاني جمة وفيرة بحيث يبدو على صورة كتاب سبحاني
مجسم، أو قرآن رباني جسماني، أو قصر مزين صمداني، أو بلد منتظم رحماني؛ إذ أن جميع
سور ذلك الكتاب وآياته وكلماته، بل حروفه وأبوابه وفصوله، وصحائفه وسطوره،
وما يجري على الجميع من " المحو والإثبات " ذي المعنى اللطيف، ومن التحويل والتغيير ذي الحكمة والإبداع.. كل
ذلك بالإجماع يفيد بداهة وجود عليم بكل شيء، قدير على كل شيء. ويعبّر
عن وجود بارئ ذي جلال، ومصور ذي كمال، يرى كل شيء في كل شيء، ويعلم علاقة كل شيء
بكل شيء، فيراعيه.
وهكذا، فان
جميع ما في الكون باركانه، وانواعه، واجزائه، وجزئياته، وساكنيه، ومشتملاته،
ووارداته، ومصاريفه، وتبديلاته ذات المصلحة، وتجديداته ذات الحكمة، يفيد ويفهّم
بالإتفاق وجود ووحدانية خالقٍ رفيع الدرجات، وصانع ليس كمثله شيء، يعمل بقدرة لاحد
لها، وبحكمة لانهاية لها.
وتثبت شهادة
الكون العظيمة هذه - على وجود الخالق ووحدانيته - حقيقتان عظيمتان واسعتان
متناسبتان مع سعة الكون وعظمته، وهما:
الحقيقة الأولى: وهي حقيقة الحدوث والإمكان التي رآها حكماء الإسلام والعلماء
الدهاة لأصول الدين وعلم الكلام، وأثبتوها ببراهين دامغة.
فقد قالوا: " لما كان في
العالم، وفي كل شئ، تغيّر وتبدل، فإنه فانٍ وحادث، ولايكون قديماً. ولأنه
حادث، فلابد له من صانع مُحدِث. ولما كان كل شئ على السواء إن لم يكن في
ذاته سبب وجودي وعدمي فلن يكون واجباً ولا أزلياً.. " . وقد أثبت
ايضاً ببراهين قاطعة أنه لايمكن إيجاد الأشياء بعضها للبعض الآخر بالدور
والتسلسل الذي هو باطل ومحال. فيلزم إذاً وجود واجب للوجود، يمتنع نظيره، ومحالٌ مثيله،
كل ما عداه ممكن، وكل ما سواه مخلوق.
نعم إن حقيقة الحدوث قد
استولت على الكون، فالعين ترى أكثرها، والعقل يرى القسم الآخر منها؛ ذلك لأننا
نشاهد أنه مع حلول الخريف في كل سنة يموت عالم عظيم جداً، فتموت معه أفراد غير
محدودة لمائة ألف نوع من النباتات والحيوانات الصغيرة، كل نوع منه بحكم كون ذي
حياة. ولكن ذلك الموت يجري في غاية الإنتظام، بحيث تُودع تلك الأفراد بذورها
ونواها وبويضاتها - التي تصبح مداراً لحشرها ونشورها، والتي هي بذاتها معجزات الرحمة
والحكمة وخوارق القدرة والعلم - تُودعها امانة لدى حكمة الحفيظ ذي الجلال، وتحت رعايته
وحمايته، مسلمةً إلى أيديها صحف أعمالها، وبرامج ما قدمت من وظائف، وبعد ذلك
تموت.. وبحلول موسم الربيع تبعث بأعيانها تلك التي توفيت من الأشجار والأصول والحيوانات الصغيرة.
وتُحيا وتخلق أمثال ومشابهات قسم آخر منها في أماكنها. فتمثل بذلك مائة ألف مثال
ونموذج للحشر الأعظم ومائة ألف دليل عليه. فموجودات الربيع الماضي
بنشرها لصحائف ما قامت به من أعمال، وما أدت من وظائف، وإعلانها تلك الصحائف في
هذا الربيع، تظهر بوضوح مثالاً للآية الكريمة: (واِذا
الصُحُفُ نُشِرَت) (التكوير: 10).
وكذا من جانب
الكون ككل؛ ففي كل خريف وفي كل ربيع يموت عالم كبير، ويأتي الى الوجود عالم جديد،
وما فيهما من الوفيات والمواليد لأنواع لاتحصى من الأحياء تجري في غاية الإنتظام
والميزان، حتى كأن الدنيا محط ومنزل، يستضاف فيه الكائنات الحية، فتأتيها
عوالم سيّاحة ودنىً سيارة تؤدي فيها وظائفها، ثم ترحل عنها وتغادرها.
وهكذا فان إحداث عوالم ذات حياة، وإيجاد
كائنات موظفة في هذه الدنيا، إحداثاً وإيجاداً بكل علم وحكمة، وميزان وموازنة،
وانتظام ونظام، واستعمالها بقدرة، واستخدامها برحمة في المقاصد الربانية، وفي
الغايات الإلهية، وفي الخدمات الرحمانية، تدل بالبداهة على وجوب وجود ذاتٍ مقدسة
جليلة لاحدّ لقدرتها، ولانهاية لحكمتها، ويظهرها للعقول واضحة كالشمس.
نغلق باب
مسائل الحدوث ونحيلها الى رسائل النور وكتب علماء الكلام.
أما جهة " الإمكان " فهو الآخر قد استولى على الكون وأحاط به، إذ نشاهد أن كل شئ
سواء أكان كلياً ام جزئياً كبيراً أم صغيراً، وكل موجود من العرش إلى الفرش، ومن
الذرات إلى السيارات، إنما يُرسل الى الدنيا، بذاتية خاصة، وبصورة معينة، وبشخصية
متميزة، وبصفات خاصة، وبكيفيات حكيمة، وبأجهزة ذات مصالح وفوائد. والحال ان اعطاء
تلك الخصوصية، لتلك الذات الخاصة ولتلك الماهية، من بين إمكانات غير محدودة.. وكذا
إكساء تلك الصورة المعينة ذات النقوش والعلامات الفارقة المتناسبة، من بين إمكانات
واحتمالات عديدة بعدد الصور.. وكذا تخصيص تلك الشخصية اللائقة بانتقاء متميز لذلك
الموجود المضطرب بين إمكانات بقدر أشخاص بني جنسه.. وكذا تمكين صفات خاصة ملائمة
ذات مصالح في ذلك المصنوع الذي ليس له شكل والمتردد ضمن إمكانات واحتمالات بعدد
أنواع الصفات ومراتبها.. وكذا تجهيز ذلك المخلوق بتلك الكيفيات ذات الحكمة،
وتقليده بتلك الأجهزة ذات العناية التي من الممكن أن تكون في طرق شتى وطرز غير
محدودة، وهو المتحير السائب بلا هدف ضمن ما لايحد من الإمكانات والإحتمالات.. إن جميع هذه الإشارات والدلالات
والشهادات، الصادرة من حقيقة " الإمكان " تشكل بلاشك
أحد جناحي هذه الشهادة العظمى للكون؛ لأنه بعدد جميع الممكنات الكلية والجزئية،
وبعدد إمكانات كل ممكن - مما ذكر - من ماهية وهوية، وما له من هيئة وصورة، وما
يتميز به من صفة ووضعية، هناك إشارات ودلالات وشهادات على وجود واجب الوجود
سبحانه، الذي يخصّص ويُرجّح ويعيّن ويحدِث، ولاحد لقدرته، ولانهاية
لحكمته، ولا يخفى عليه شيء ولاشأن، ولا يعجزه شيء، ولا يعزب عنه شيء، فأكبر شيء
عنده يسير كأصغره. وهو القادر على إيجاد ربيع بيسر إيجاد شجرة، وعلى إيجاد شجرة
بسهولة إيجاد بذرة.
ولما كانت
أجزاء رسائل النور (وبخاصة الكلمة الثانية والعشرين، والثانية والثلاثين، والمكتوب
العشرين والثالث والثلاثين) قد أثبتت إثباتاً كاملاً، وأوضحت إيضاحاً تاماً شهادة
الكون بكلا جناحيها، وبكلتا حقيقتيها، لذا نختم هذه المسألة الطويلة جداً بإحالتها
إلى تلك الرسائل.
أما الجناح
الثاني للشهادة الكبرى الكلية الصادرة من مجموع الكون فهو:
الحقيقة الثانية: حقيقة التعاون
إن حقيقة
التعاون تشاهد فيما هو خارج عن طوق المخلوقات الساعية لحفظ وجودها ومهامها، وصيانة
حياتها - إن كانت ذات حياة – و إيفاء وظيفتها ضمن هذه الإنقلابات المضطربة
المستمرة والتحولات المتلاطمة الدائمةً. فمثلاً: إن
سعي العناصر لإمداد الأحياء، وبخاصة مدّ السحاب للنباتات، ومساعدة النباتات بدورها
للحيوانات، ومعاونة الحيوانات للإنسان، واللبن السائغ في الأثداء والمتدفق لإطعام
الصغار، وتسليم حاجات الأحياء وأرزاقها الكثيرة جداً والخارجة عن طاقتها وطوقها إلى
أيديها من حيث لاتحتسب، وجري الذرات الغذائية لبناء خلايا البدن.. وما شابهها من الأمثلة
الغزيرة لحقيقة التعاون الجارية بالتسخير الرباني وبالاستخدام الرحماني، تُظهر
بجلاء ربوبية رب العالمين العامة المحيطة ورحيميته الواسعة الشاملة والذي يدير
الكون الواسع برمته بسهولة إدارة قصر بسيط.
نعم إن إظهار
الأشياء المتعاونة - وهي جامدة وبلا شعور ولا شفقة - أوضاعاً تنم عن الشفقة وتتسم
بالشعور فيما بينها دليل وأيّ دليل على أنها تُدفع دفعاً للإمداد والمعاونة فتجري
بقوة رب ذي جلال، وبرحمة رحيم مطلق الرحمة، وبأمر حكيم مطلق الحكمة.
وهكذا فإن (التعاون) العام
الجاري في الكون و(الموازنة) العامة السارية بكمال الإنتظام و (المحافظة) الشاملة، إبتداء
من المجرات والسيارات إلى أجهزة الكائن الحي وأعضائه الدقيقة بل إلى ذرات
جسمه و (التزيين) الجاري قلمه من وجه السموات
المتلألئ إلى وجه الارض البهيج، بل إلى وجه الأزهار الجميلة و(التنظيم) الحاكم إبتداء
من درب التبانة إلى المنظومة الشمسية وإلى ثمار الذُرة والرمان وأمثالهما و (التوظيف) القائم إبتداءً
من الشمس والقمر والعناصر والسحب إلى النحل والنمل.. وأمثالها من الحقائق العظيمة
جداً، والشاهدة شهادة متناسبة مع عظمتها، تشكل الجناح الثاني لشهادة الكون على
وجوده سبحانه ووحدانيته وتثبتها.
فما دامت
رسائل النور قد أثبتت هذه الشهادة العظمى وبيّنتها، لذا نكتفي هنا بهذه الإشارة
القصيرة جداً.
وهكذا ذكرت
في المرتبة الثامنة عشرة من المقام الأول إشارة قصيرة لما تلقاه سائح الدنيا من
درس الإيمان من الكون:
[لاإله إلاّ
الله الواجب الوجود، الممتنع نظيره، الممكن كل ما سـواه، الواحد الأحد، الذي دلّ
على وجوب وجوده في وحدته: هذه الكائنات، الكتاب الكبير المجسم والقرآن الجسماني
المعظّم والقصر المزين المنظم، والبلد المحتشم المنتظم، بإجماع سـورهِ وآياته
وكلماتهِ وحروفهِ وأبوابهِ وفصولهِ وصحفهِ وسطورهِ، وإتفاق ِ أركانه وأنواعهِ وأجزائهِ
وجزئياتهِ وسكنتهِ ومشتملاتهِ ووارداتهِ ومصارفهِ، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة
الحدوث والتغير والامكان، بإجماع جميع عُلماء علم الكلام، وبشهادة حقيقة تبديل
صـورتـهِ ومشـتملاته بالحكمة والإنتظام، وتجديدِ حروفهِ وكلماتهِ بالنظام
والميزان، وبشهادة عظمة إحــاطةِ حقيقة: التعاون، والتجاوب، والتســاند، والتداخل،
والموازنــة، والمحافظة، في موجوداته بالمشـاهدة والعيـان].
" إياك "
" فعلينا
إذاً أن نسأل من نبحث عنه، منه مباشرة، ونَدَع "إياك" البحث
الغيابي عنه،
إذ ينبغي السؤال عن الشمس - التي تنور كل شئ - من الشمس نفسها. لأن الذي يُظهرُ كل
شيء ويوضحه لاشك أنه يظهر نفسه أكثر من كل شيء؛ لذا فكما يمكننا أن نرى الشمس
ونتعرف عليها من أشعتها وضيائها، يمكننا
أيضاً أن نسعى - حسب قابليتنا - في التعرف على خالقنا سبحانه وتعالى من تجليات أسمائه
الحسنى ومن أنوار صفاته الجليلة
وسنبين
في هذه الرسالة بياناً مجملاً ومختصراً حقيقتين فقط من بين الحقائق الغزيرة
والتفصيلات المسهبة لمرتبتين من المراتب غير المتناهية لطريقين من الطرق الكثيرة
لهذا المقصد:
الحقيقة الاولى: حقيقة الفعالية
المستولية. تلك الفعالية المهيمنة على الكون، والمشاهدة أمام
اعيننا. وهي التي تدير، وتبدل، وتجدد، جميع الموجودات
المحيطة والدائمة والمنتظمة والهائلة والسماوية والأرضية. والتي تفضي إلى
الشعور بحقيقة تظاهر الربوبية - بداهة - ضمن حقيقة تلك الفعالية الحكيمة
بجميع جهاتها. وهذا الشعور يسوق إلى إدراك تبارز الألوهية بالضرورة ضمن حقيقة
تظاهر الربوبية المشعة بالرحمة بجميع جهاتها.
أي يُستشعر - كأنه يُرى - أفعال فاعل
قدير وعليم، من هذه الفعالية الحكيمة المهيمنة الدائمة ومن وراء ستارها. ويُعلم
بداهة - إلى درجة الإحساس - الأسماء الإلهية الحسنى المتجلية في كل شئ، من هذه الأفعال
الربانية ذات التدبير والتربية ومن وراء ستارها، ويُعرف بعلم اليقين، بل بعين
اليقين، بل بحق اليقين وجود الصفات السبعة القدسية وتحققها من هذه الأسماء الحسنى
المتجلية بالجلال والجمال ومن وراء ستارها. ويُعلم كذلك بعلم قاطع وبالبداهة
والضرورة وبعلم اليقين وبشهادة جميع المصنوعات، من التجليات غير المتناهية لهذه الصفات
السبعة القدسية، ذات الحيوية والقدرة والعلم والسمع والبصر والارادة والكلام، وجود
موصوف واجب الوجود، ومسمىً واحد أحد، وفاعل فرد صمد. فيكون وجوده سبحانه للبصيرة
أظهر من الشمس للبصر وأسطع منها، فتدركه حتى كأنها تراه؛ ذلك لأن الكتاب
الجميل ذا المعنى اللطيف، والبناء المنتظم المتقن، يستدعيان بداهة فعلي الكتابة
والبناء، وفعلي الكتابة الجميلة والبناء المنتظم يستدعيان أيضاً بداهة إسمَي
الكاتب والبنّاء، وإسمي الكاتب والبنّاء يستدعيان أيضاً بداهة صنعة الكتابة
والبناء وصفتيهما، وهذه الصنعة والصفات تستلزمان بداهة ذاتاً تكون موصوفة وصانعة،
ومسمىً، وفاعلة، إذ كما لايمكن أن يكون هناك فعل دون فاعل، ولا إسم دون مسمى، كذلك
لايمكن أن تكون صفة دون موصوف، ولا صنعة دون صانع.
وهكذا يتقرر بناء على هذه الحقيقة
والقاعدة أن هذا الكون - بموجوداته كافة - قد كُتب بقلم القدر، وبُني بمطرقة
القدرة. فكُتب فيه ما لايحد مما هو بحكم الكتب والرسائل ذات المعاني اللطيفة. وبني
فيه ما لا ينتهي مما هو بمثابة بنايات وقصور. فيشير كل واحدة منها إشارات
لاحدّ لها بآلاف الأوجه، وتشهد معاً بوجوه غير
محدودة شهادات لا نهاية لها على وجوب
وجود ووحدانية ذاتٍ جليلة أزلية أبدية، هي موصوف تلك الصفات السبعة المحيطة
القدسية ومعدنها؛ بالأفعال الربانية والرحمانية غير المتناهية، وبجلوات غير محدودة
لألف إسم وإسم من الأسماء الحسنى التي هي منشأ تلك الأفعال، وبالتجليات غير
المتناهية للصفات السبعة السبحانية التي هي منبع تلك الأسماء الحسنى.. وكذا فإن ما
في تلك الموجودات كلها من جميع أوجه الحسن والجمال وأنماط النفاسة والكمال، ومن
جمال قدسي يليق بتلك الأفعال الربانية والأسماء الإلهية والصفات الصمدانية والشؤون
السبحانية ويوافقها، كل منه - بحد ذاته - يشهد و بمجموعه يشهد بداهة على
الجمال المقدس والكمال المقدس لذاته سبحانه وتعالى.
وهكذا فإن حقيقة الربوبية
المتظاهرة ضمن حقيقة الفعالية المستولية تعرّف نفسها وتبيّنها بشؤونها وتصرفها في
الخلق والإيجاد والصنع والإبداع التي تتم بالعلم والحكمة، وتظهرها في
التقدير والتصوير والتدبير والإدارة التي تتسم بالنظام والميزان، وتبرز في
التحويل والتبديل والتنزيل والتكميل التي تنجز بالقصد والإرادة، وتوضحها في
الإطعام والإنعام والإكرام والإحسان التي تُعطى بالشفقة والرحمة.
وإن حقيقة تبارز الألوهية أيضاً
التي تُحسّ وتوجد بداهة ضمن حقيقة تظاهر الربوبية تعرّف نفسها وتفهمها أيضاً
بتجليات الأسماء الحسنى ذات الرحمة والكرم، وبالتجليات الجلالية
والجمالية للصفات الثبوتية السبعة التي هي: " الحياة " و " العلم " و " القدرة " و " الارادة " و " السمع " و " البصر " و " الكلام ".
نعم فكما أن صفة " الكلام " تعرّف
الذات الأقدس سبحانه وتعالى بالوحي والإلهامات، فإن صفة " القدرة " كذلك تعرّف
ذاته جل وعلا بآثارها البديعة التي هي بمثابة كلماتها المجسّمة التي تصف قديراً ذا
جلال، وتعرّفه بإظهارها الكون من أقصاه إلى أقصاه بماهية فرقان جسماني.
وأن صفة " العلم " أيضاً تعرّف ذات الواحد الأحد
الموصوف، بقدر جميع المصنوعات الحكيمة المنتظمة الموزونة، وبعدد جميع المخلوقات
التي تدار وتدبّر وتزيّن وتمّيز بالعلم.
أما صفة " الحياة " فإن جميع
الآثار الدالة على " القدرة " والصور والأحوال
ذات الإنتظام والحكمة والميزان والزينة، التي تنبئ عن وجود " العلم " وجميع الدلائل
التي تخبر عن بقية الصفات الجليلة، مع دلائل صفات " الحياة " نفسها تدل على
تحقق صفة " الحياة " . والحياة
نفسها كذلك مع جميع أدلتها تلك، تبرز جميع ذوي الحياة التي هي بحكم مراياها، وتحوّل
الكون برمته إلى صورة مرآة كبيرة جداً متكونة من مرايا غير محدودة متبدلة دائماً
ومتجددة باستمرار لاجل إظهار التجليات البديعة والنقوش الرائعة المتنوعة جديدة
فتية في كل حين.
وقياساً على هذا فإن صفات (البصر) و
(السمع) و (الارادة) و (الكلام) كل منها تعرّف الذات الأقدس تعريفاً واسعاً جداً
بسعة الكون وتفهمّها. و إن تلك الصفات مثلما أنها تدل على وجود ذاته جل وعلا، فهي
تدل كذلك بداهة على وجود الحياة وتحققها، وعلى أنه سبحانه وتعالى " حي " ؛ ذلك لأن
العلم علامة الحياة، والسمع أمارة الحيوية، والبصر يخصّ الأحياء، والإرادة تكون مع
الحياة، والقدرة الإختيارية توجد في ذوي الحياة، أما التكلم فهو شأن الأحياء
المدركين.
وهكذا يفهم من هذه النقاط: أن لصفة " الحياة " أدلة وبراهين
تبلغ سبعة أضعاف سعة الكون، تعرّف وجودها ووجود موصوفها " الحي " حتى أصبحت " الحياة " أساس جميع الصفات ومنبعها، ومصدر الإسم
الأعظم ومداره..
وحيث ان
رسائل النور قد أوضحت شيئاً من هذه الحقيقة الاولى واثبتتها ببراهين دامغة، نكتفي
حالياً بهذه القطرة المذكورة من هذا البحر.
الحقيقة الثانية: هي التكلم
الإلهي القادم من صفة الكلام.
إن الكلام الإلهي سبحانه لانهاية له، وذلك بسر
الآية الكريمة: (قل لو كان البحرُ مِداداً لكلماتِ
ربي) (الكهف:109)
فالكلام أظهر دليل على معرفة وجود
المتكلم، أي أن هذه الحقيقة (التكلم الإلهي) تشهد شهادات غير متناهية على وجود
المتكلم الأزلي سبحانه وعلى وحدانيته. ولقد جاءت شهادتان قويتان لهذه
الحقيقة بما بُيّن في المرتبتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من هذه الرسالة من حيث
الوحي والالهام، وجاءت شهادة أخرى
واسعة في
المرتبة العاشرة منها حيث أشير إلى الكتب المقدسة السماوية، وهناك شهادة أخرى
ساطعة وباهرة وجامعة هي في المرتبة السابعة عشرة حيث القرآن الكريم المعجز. فنحيل
بيان هذه الحقيقة وشهادتها إلى تلك المراتب.
وهكذا فقد
كانت أنوار واسرار الآية الكريمة:(شَهد الله أنه
لاإله إلاّ هو والملئكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسطِ لا إله إلاّ هو العزيزُ
الحكيم) (آل عمران: 18) التي أعلنت هذه الحقيقة إعلاناً معجزاً، وأفادت
شهادتها مع شهادة بقية الحقائق، كانت كافية ووافية لصاحبنا السائح حتى أنه لم
يستطع أن يتجاوزها.
فذكرت في
المرتبة التاسعة عشرة من المقام الاول إشارة لمعانٍ مختصرة لما تلقاه هذا المسافر
من درس في هذا المقام القدسي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود
الواحد الأحد، له الأسماء الحسنى، وله الصفات العليا، وله المثل الأعلى، الذي دلّ
على وجوب وجوده في وحدته: الذاتُ الواجـب الوجـود، بإجماع جميع صفاتِهِ القدسيّةِ
المحيطة، وجميع أسمائه الحسـنى المتجلية، وبـإتفاق جميع شؤوناته وأفعاله
المتصرفةِ، بشهادة عظمةِ حقيقةِ تبارزِ الألوهية في تظاهر الربوبية، في دوام
الفعالية المستولية، بفعل الإيجاد والخلق والصنع والإبداع بإرادةٍ وقدرةٍ، وبفعل
ِالتقدير والتدبير والتدوير بإختيار وحكمةٍ، وبفعل التصريف والتنظيم والمحافظة والإدارة
والإعاشة بقصدٍ ورحمةٍ، وبكمال الإنتظام والموازنةِ. وبشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ
اسرار:
(شَهِدَ الله أنه لا إله إلاّ
هو والملئكةُ وأولوا العلمِ قائماً بالقسط لاإله إلاّ هو العزيزُ الحكيم) ].
*
* *
تنبيه
إن كل حقيقة
من الحقائق الشاهدة لتسع عشرة مرتبة من مراتب الباب الأول للمقام الثاني المذكور
آنفاً، كما تدل على وجوب الوجود بتحققها ووجودها، كذلك تدل بإحاطتها على الوحدة
والأحدية. إلاّ انها عدّت " دلائل وجوب الوجود " حيث أثبتت صراحة الوجود مقدماً.
أما الباب
الثاني للمقام الثانى فلقيامه بإثبات التوحيد صراحة أولاً، وإثبات الوجود ضمنه،
فقد اطلق عليه " براهين التوحيد " . وإلاّ فكلاهما - أي الباب الاول والثاني - يثبتان الوجود
والتوحيد معاً، ولكن لأجل التمييز بينهما يكرر في الباب الأول فقرة " بشهادة عظمة احاطة حقيقة " ، وفي الباب الثاني فقرة " بمشاهدة عظمة احاطة حقيقة " ، إشارة للوحدانية الظاهرة الجلية، وكأنها مشاهدة.
ولقد عزمت
على توضيح مراتب الباب الثاني القابل، كما هو في الباب الاول، ولكن موانع بعض الأحوال
اضطرتنى الى الإختصار والإجمال؛ لذا نحيل إلى رسائل النور لإستيفاء حقه من البيان والوضوح.
الباب الثاني
براهين التوحيد
إن ذلك
المسافر الذي أُرسل إلى الدنيا لأجل الإيمان، والذي قـام بسـياحة فكرية في عالم
الكائنات للاسـتفسـار عن خالقه من كل شيء، والتعرف على ربِّه في كل مكان، وترسخ إيمانه
بـدرجة حق اليقين، بوجوب وجود إلهه الذي يبحث عنه خاطب هذا السائح عقله قائلاً:
هلّم لنخرج
معاً في سياحة أخرى جديدة لنَرى من خلالها براهيـن تقودنا إلى وحدانية خالقنا
الجليل سبحانه وتعالى. وطفقا يبحثان معاً بشوق غامر عن (براهين التوحيد)
هذه، فوجدا في أولى المنازل أن هناك أربع حقائق قدسية تستحوذ على الكائنات،
وتستلزم التوحيد بدرجة البداهة.
الحقيقة الاولى: الألوهية المطلقة
إن انهماك كل
طائفة من طوائف البشرية بنوع من أنواع العبادة وانشغالهم به انشغالاً كأنه فطري..
وقيام سائر ذوي الحياة بل حتى الجمادات بخدماتها ووظائفها الفطرية التي هي بحكم
نوع من أنواع العبادة.. وكون كلٍ من النعم والآلاء المادية والمعنوية التي تغمر
الكائنات وسيلة عبادة وشكر لمعبودية تمدّهم بسبل العبادة والحمد.. وإعلان الوحي
والإلهام ما ترشح وما تجلى معنوياً من الغيب، بمعبودية الاِله الواحد.. كل هذا
يثبت بالبداهة تحقق الألوهية الواحدة المطلقة وهيمنتها.
فما دامت
حقيقة هذه الألوهية كائنة وموجودة، فلن تقبل إذاً المشاركة معها؛ لأن الذين
يقابلون تلك الألوهية (اي المعبودية) بالشكر والعبادة هم ثمرات ذات مشاعر في قمة
شجرة الكائنات، لذا فإن إمكان وجود آخرين يشدّون انتباه أولئك الشاعرين، ويجذبونهم
اليهم، ويجعلونهم ممتنين لهم وشاكرين، محاولين تنسيتهم معبودهم الحق - الذي يمكن
أن ينسّى بسرعة لغيابه عن الرؤية ولاحتجابه عن الانظار - مناقض لماهية الألوهية
ومناف لمقاصدها القدسية، ولايمكن قبوله إطلاقاً. ومن هنا أفاض القرآن الكريم في رفض
الشرك بشدة، وهدد المشركين بعذاب جهنم.
*
* *
الحقيقة الثانية: الربوبية المطلقة
إن التصرف
العام الشامل من لدن يدٍ غيبية في جميع الكائنات - وبخاصة الأحياء منها - بحكمة
ورحمة في تربيتها وفي إعاشتها، اللتين تتمان معاً بالطريقة نفسها، في كل جهة من
الجهات، وبصورة غير مأمولة ومتوقعة، مع اكتناف بعضها البعض الآخر، إنما هو رشحات
وضياء يدل على الربوبية الواحدة المطلقة؛ بل هو برهان قاطع على تحققها.
فما دامت
هناك ربوبية واحدة مطلقة فلن تقبل إذاً الشرك، ولا المشاركة قطعاً؛ ذلك لأن
أهم غايات تلك الربوبية، وأقصى مقاصدها هو إظهار جمالها، وإعلان كمالها، وعرض
صنائعها النفيسة، وإبراز بدائعها القيّمة، وقد تجمعت هذه المقاصد جميعها في كل ذي
روح، بل حتى في الجزئيات؛ لذا لايمكن أن تقبل الربوبية
الواحدة
المطلقة الشرك ولا الشركاء إطلاقاً، إذ إن تدخلاً عشوائياً للشرك في أي موجود من
الموجودات - مهما كان جزئياً - وفي أي كائن حي - مهما كان بسيطاً أو صغيراً - يفسد
تلك الغايات، ويبطل تلك المقاصد، ويصرف الأذهان عن تلك الغايات، وعمن أرادها
وقصدها، إلى الأسباب. وهذا ما يخالف ماهية الربوبية المطلقة تماماً ويعاديها. فلابد اذاً
أن تمنع هذه الربوبية الواحدة المطلقة الشرك وصوره بأي شكل من الاشكال. فإرشادات القرآن
الكريم الغزيرة المستمرة إلى التوحيد، وإلى التقديس والتنزيه والتسبيح، في آياته
الكريمة، وفي كلماته، وحتى في حروفه وهيئاته، نابعة من هذا السر الأعظم.
* *
*
الحقيقة الثالثة: الكمالات
نعم؛ إن جميع
ما في الكون من حكم سامية ومن جمال خارق ومن قوانين عادلة ومن غايات حكيمة، إنما
تدل بالبداهة على وجود حقيقة الكمالات.. وهي شهادة ظاهرة على كمال الخالق
سبحانه الذي أوجد هذا الكون من العدم، ويدبّر أمره في كل جهة وناحية، إدارة معجزة
جذابة جميلة، فضلاً عن أنها دلالة واضحة على كمال الإنسان الذي هو المرآة الشاعرة
العاكسة لتجليات الخالق جل وعلا.
فما دامت
هناك حقيقة الكمالات، ومادام كمال الخالق الذي أوجد الكون في الكمال هو ثابت
ومحقق، ومادام كمال الانسان الذي هو أفضل ثمرة للكون، وخليفة الله في الأرض، وأكرم
مصنوع وأحب مخلوق للخالق سبحانه وتعالى؛ حقيقة ثابتة محققة ايضاً. فلابد أن الشرك
الذي يحوّل صورة الكون - ذات الكمال والحكمة الظاهرة - إلى ألعوبة بيد المصادفة، و
إلى لهو تعبث به الطبيعة، وإلى مجزرة ظالمة رهيبة لذوي الحياة، وإلى مأتم مظلم
مخيف لذوي الشعور - حيث يهوي فيه كل شئ إلى الفناء، وينحدر إلى الزوال ويمضي
حثيثاً بلا غاية ولاهدف - والذي يردي الانسان الواضحة كمالاته من آثاره إلى أسفل
درك من دركات الحيوان كأتعس مخلوق وأذله، والذي يسدل الستار على مرايا تجليات كمال
الخالق سبحانه - وهي جميع الموجودات الشاهدة على الكمال المقدس المطلق للخالق
الكريم - مبطلاً بذلك نتيجة فعاليته، وخلاّقيته سبحانه !! فلا يمكن أن
يستند هذا الشرك على حقيقة ما مطلقاً، ولا يمكن
ان يكون موجوداً في الكون ابداً. هذا وان تصدي الشرك للكمالات الإلهية والانسانية
والكونية ومعاداته لها وإفساده فيها قد بحث واثبت مفصلاً في " الشعاع الثاني " الذي يبين ثلاث ثمرات للتوحيد وبالاخص في المقام الاول منه مع
دلائل قوية قاطعة، فنحيل الى ذلك.
* *
*
الحقيقة الرابعة: الحاكمية المطلقة
نعم؛ إن من
ينظر نظرة واسعة فاحصة إلى الكون، يرى أنه بمثابة مملكة مهيبة جداً؛ في غاية
الفعالية والعظمة، وتظهر له كأنه مدينة عظيمة تتم إدارتها إدارة حكيمة، وذات سلطنة
وحاكمية في منتهى القوة والهيبة. ويجد أن كل شئ وكل نوع منهمك ومسخر لوظيفة معينة.
فالآية الكريمة (ولله جُنودُ السمواتِ والارضِ)
(الفتح: 7) تشعر بمعاني الجندية في الموجودات التي تتمثل ابتداءً من جيوش الذرات
وفرق النباتات وأفواج الحيوانات إلى جيوش النجوم. كل أولئك جنود ربانية مجندة لله،
فنجد في جميع أولئك الموظفين الصغار جداً، وفي جميع هؤلاء الجنود المعظمة جداً، سريان
الأوامر التكوينية المهيمنة، وجريان الأحكام النافذة، وقوانين الملك القدوس، مما
يدل دلالة عميقة بالبداهة على وجود الحاكمية الواحدة المطلقة والآمرية الواحدة
الكلية.
فمادامت
الحاكمية الواحدة المطلقة حقيقة كائنة، وهي موجودة. فلابد أن
الشرك لاحقيقة له. ذلك لأن الحقيقة الجازمة التي تصرح بها الآية
الكريمة (لَو كانَ فيهِما آلهةٌ إلاّ الله
لَفَسدَتا) (الانبياء: 22) تفيد بأنه لو تدخلت أيدٍ متعددة في
مسألة معينة وكان لها النفوذ، لاختلطت المسألة نفسها. فلو كان في مملكة ما حاكمان،
أو حتى لو كان في ناحية ما مسؤولان، فإن النظام يفسد ويختل وتتحول الإدارة إلى هرج
ومرج. والحال أن هناك نظاماً رائعاً جداً، يسري ابتداء من جناح البعوضة إلى قناديل
السماء، ومن الخلايا الجسمية إلى أبراج الكواكب والسيارات، مما لايمكن أن يكون
للشرك فيه أي تدخل ولو كان بمقدار ذرة.
وكذا،
الحاكمية نفسها إنما هي مقام للعزة، فلن يقبل هذا المقام منافساً وخصيماً، لما فيه
من تجاوز لهيبته وكسر لعزته.
نعم، إن
إقدام الانسان المحتاج دوماً إلى من يعاونه لضعفه وعجزه، على قتل أخيه أو بنيه -
ظلماً - لأجل حاكمية ظاهرية مؤقتة جزئية؛ يدل على أن الحاكمية لاتقبل المنافسة
أبداً. فلئن كان الإنسان - وهو العاجز - يقدم على مثل هذا الفعل لأجل حاكمية
جزئية، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يرضى من هو القدير المطلق الذي يملك الكون كله
تدخلاً أو شركاً من أحد في حاكميته الذاتية المقدسة التي هي محور ربوبيته المطلقة،
والوهيته الحقيقية الكلية.
ونظراً
لاثبات هذه الحقيقة المشعة بدلائل قوية في " المقام الثاني " من " الشعاع الثاني " وفي مواضع عدة من " رسائل النور " فإننا نحيل اليها.
وهكذا فإن
صاحبنا المسافر بعد أن شهد هذه الحقائق الأربع تحققت لديه وحدانية الله سبحانه
بدرجة الشهود. فنما إيمانه وارتقى وبدأ يردد بقوة:
" لا إله إلاّ
الله وحده لا شريك له " .
وإشارة لما
تلقاه من درس في هذا المنزل فقد ذكر في المقام الاول من الباب الثاني:
[لا اِلهَ اِلاّ الله الواحد الاحد
الذي دلّ على وحدانيته ووجوب وجـوده مشاهدة عظمة حقيقة تبارز الألوهية المطلقة،
وكذا مشـاهدة عظمـة اِحاطة حقيقة تظاهر الربوبية المطلقة المقتضية للوحدة. وكذا
مشـاهدة عظمة اِحاطة حقيقة الكمالات الناشئة من الوحدة وكذا مشاهدة عظمة إحاطة
حقيقة الحاكمية المطلقة المانعة والمنافية للشركة].
*
* *
ثم إن ذلك
المسافر الذي لايسكن ولايهدأ خاطب قلبه قائلاً:
إن تكرار أهل
الايمان " لا إله إلاّ هو " باستمرار
وبخاصة المتصوفة منهم، وإعلانهم نداء التوحيد، وتذكيرهم به يبين لنا أن هناك مراتب
كثيرة جداً للتوحيد. و أن التوحيد هو أهم وظيفة قدسية، وأحلى فريضة فطرية، وأسمى
عبادة إيمانية. فما دام الأمر هكذا، فتعال ياقلب لنفتح باباً لمنزلٍ آخر من منازل
دار العبرة والإمتحان هذه، لنتعرف من خلاله على مرتبة اخرى من مراتب التوحيد؛ لأن
التوحيد الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه ليس مقصوراً على معرفة نابعة من تصور، بل
هو أيضاً ما يقابل التصور في علم المنطق من التصديق الذي هو علمٌ، وهو نتيجة نابعة
من البرهان، وهو أسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير.
فالتوحيد الحقيقي إنما هو حكمٌ
وتصديق وإذعان وقبول، بحيث يمكّن المرء من أن يهتدي إلى ربه من خلال كل شيء.
ويمكّنه من أن يرى في كل شيء السبيل المنورة التي توصله إلى خالقه الكريم، فلا
يمنعه شيء قط عن سكينة قلبه واطمئنانه، واستحضاره لمراقبة ربّه.
فلو لم يكن
الامر هكذا، لأضطر المرء إلى أن يمزق حجاب الكائنات ويخرقه - كل مرة - كي يتمكن من
التعرف على ربّه !. لذا نادى المسافر قائلاً: هيا بنا إذاً لنطرق باب " الكبرياء والعظمة " ولندخل منزل " الآثار والأفعال " وعالم " الإيجاد والإبداع " .. فما أن ولج هذا المنزل حتى رأى أن هنالك " خمس حقائق محيطة " تستحوذ على الكون وتثبت التوحيد وتستلزمه بالبداهة.
*
* *
الحقيقة الاولى
حقيقة العظمة والكبرياء
نظراً لتوضيح
هذه الحقيقة ببراهين في " المقام الثاني " من " الشعاع الثاني " وفي عدة مواضع من رسائل النور نكتفي هنا بما يأتي:
إن الذي أوجد
النجوم التي يبعد بعضها عن البعض الآخر آلاف السنين، والذي يتصرف فيها في آن واحد
وعلى نمط واحد. والذي يخلق أفراداً غير معدودة لنوع واحد من زهرة نابتة في الشرق أو
الغرب أو الشمال أو الجنوب من الأرض ويصوّرها في وقت واحد وعلى هيئة واحدة وصورة
واحدة، والذي يخبرنا عن أعجب حادثة ماضية وغيبية في قوله تعالى (هو الذي خَلقَ السمواتِ والارضَ في ستةِ ايامٍ)
(الحديد: 4) مثبتاً تلك الحادثة كأنها تحدث أمامنا، بما يخلق من مثيلاتها ونظائرها
على وجه الارض، وبخاصة عند حلول موسم الربيع، الذي نجد فيه عياناً أكثر من مائة
ألف مثال على الحشر الأعظم لأكثر من مائتي ألف نوع من طوائف النباتات وأمم
الحيوانات، التي تخلق وتنشأ في بضعة أسابيع فقط.. فلاريب أن من بيده إدارة هذا
الحشد الهائل مجتمعاً، وتربيته وإعاشته، وتمييز بعضه عن البعض الآخر، وتزيينه
بكمال الإنتظام والميزان، دون لبس او نقص أو خطأ ودون تأخير أو إهمال، وهو الذي
بيده دوران الارض وحصول ظاهرة الليل والنهار بانتظام بديع كما صرحت به الآية
الكريمة (يولج الَّيلَ في النَهار ويولجُ النهار
في الَّيل) (لقمان: 29) مسجلاً وممحياً - بهذا الدوران - الحوادث
اليومية وتبدلاتها في صحيفة الليل والنهار، وهو الذي يعلم في الوقت نفسه، وفي
اللحظة نفسها، خبايا الصدور وخلجات القلوب، فيديرها بإرادته.. ينبغي أن يكون -
فاعل هذه الأفعال التي كل منها فعل واحد منفرد خاص- واحداً أحداً قادراً صاحب
جلال، له من العظمة والكبرياء بداهة ما يقتلع كل جذور الشرك ويمحو جميع أثاره
واحتمالاته مهما كان نوعها و بأية جهة كانت، وفي أي شيء كان، وفي أي مكان كان.
فما دامت هذه
الكبرياء وهذه القدرة العظيمة موجودتين، وما دامت صفة الكبرياء هذه هي في منتهى
الكمال والإحاطة التامة، فلا يمكن أن تسمحا مطلقاً لأي نوع من أنواع الشرك؛ لأن
الشرك يعني إسناد العجز والحاجة إلى تلك القدرة المطلقة، وإلصاق القصور بتلك
الكبرياء، وعزو النقص بذلك الكمال، وتحديد تلك الإحاطة بالقيد، وإنهاء غير
المتناهي المطلق. فلا يمكن أن يقبل ذلك كل من له عقل وشعور، وكل من له فطرة سليمة
لم تتفسخ.
وهكذا فالشرك
من حيث هو تحدٍ لتلك الكبرياء، وتطاول على عزة ذي الجلال، ومشاركة للعظمة، جريمة
نكراء لاتدع مجالاً للعفو والصفح والمغفرة. وإن القرآن - ذا البيان المعجز - يعبّر
عن هذا ويبيّنه ويشفعه بذلك التهديد الصارخ والوعيد الرهيب بقوله تعالى:
(إنَّ
الله لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ بهِ ويَغفِرُ ما دونَ ذَلكَ لمنْ يَشاء)
(النساء:48).
*
* *
الحقيقة الثانية
ظهور الأفعال الربانية ظهوراً مطلقاً ومحيطاً
وهي التي يشاهد
تصرفها في الكون قاطبة وتظهر ظهوراً مطلقاً محيطاً، ولا يحدد تلك الأفعال إلاّ
الحكمة الربانية، والإرادة الإلهية، وقابليات المظاهر. فالمصادفة العشواء والطبيعة
الصماء والقوة العمياء والأسباب الجامدة والعناصر المبعثرة، لن تمتد يدها أو تتدخل
في تلك الأفعال التي هي في منتهى الدقة والميزان والحكمة، والتي تنجز بكل بصيرة
وحيوية وانتظام وإحكام. وليست الأسباب الاّ حجاباً ظاهرياً فحسب تستخدمها
القدرة الفاعلة لذي الجلال والعزة، وتسخرها على وفق أمره وإرادته وقوته.
ونودّ هنا
بيان ثلاثة أمثلة عن الأفعال الربانية - من بين الآلاف منها - مما تشير إليها
الآيات الثلاث المتصلة بعضها ببعض في سورة النحل، ومع أن كل فعل منها يحتوي على
نكات لا حصر لها إلاّ اننا نذكر منها هنا ثلاثاً فقط.
الآية
الاولى: (وأوحى ربُّكَ الى النَّحلِ أن اتَّخِذي منَ
الجبالِ بيوتاً) (النحل: 68).
نعم، إن
النحلة معجزة القدرة الربانية فطرةً ووظيفةً، ويا لها من معجزة عظيمة حتى سميت
باسمها سورة جليلة في القرآن الكريم؛ ذلك لأن تسجيل البرامج الكاملة لوظيفتها
الجسيمة في رأس صغير جداً لماكنة عسل صغيرة.. ووضع أطيب الأطعمة وألذها في جوفها
الصغير وطبخها فيه.. واختيار المكان المناسب لوضع سم قاتل مهدم لأعضاء حية في
رميحته دون أن يؤثر في الأعضاء الأخرى للجسم.. لايمكن أن يتم - كل هذا - الاّ
بمنتهى الدقة والعلم، وبمنتهى الحكمة والإرادة، وغاية الموازنة والانتظام؛
لذا لن يتدخل مطلقاً ما لاشعور له ولا نظام ولاميزان من أمثال الطبيعة الصماء أو
المصادفة العمياء في مثل هذه الأفعال البديعة.
وهكذا
نرى ثلاث معجزات في هذه الصنعة الإلهية، ونشاهد ظهور هذا الفعل الرباني أيضاً فيما
لايحد من النحل في أرجاء المعمورة كافة. فبروز هذا الفعل الرباني وإحاطته بالجميع،
وبالحكمة نفسها، والدقة نفسها، والميزان نفسه، وفي الوقت عينه، وبالنمط عينه، يدل
على الوحدة بداهة ويثبت الوحدانية.
الآية الثانية: (وإنَّ لكم في الانعَامِ لَعِبرَةً
نُسقيكُم مِما في بُطونِهِ من بينِ فَرثٍ ودمٍ لبَناً خالصاً سائغاً للشاربينَ)
(النحل: 66) .
إن
هذا الأمر الإلهي ليتقطر عبراً ودروساً. نعم، إن إسقاء اللبن الأبيض الخالص،
النظيف الصافي، المغذي اللذيذ، من مصانع الحليب المغروزة في أثداء الوالدات. وفي
مقدمتها البقرة والناقة والمعزى والنعجة، الذي يتدفق بسخاء من بين فرث ودم دون أن
يختلط بهما أو يتعكر.. وان غرس ما هو ألذ من اللبن وأحلى منه وأطيب واثمن، في
أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حد الفداء والإيثار.. ليحتاج
حتماً إلى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مالا
يكون قطعاً من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء، لذا فإن
تصرف هذه الصنعة الربانية، وإحاطة هذا الفعل الإلهي، وتجليها في الحكمة نفسها،
والدقة نفسها، والإعجاز نفسه، وفي آن واحد، وطراز واحد، في أفئدة تلك الآلاف
المؤلفة من أضراب الوالدات وفي أثدائها، وعلى وجه الأرض كافة، يثبت الوحدة
بداهة ويدل على الوحدانية.
الآية الثالثة: (ومن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ
تَتَّخذونَ منهُ سكراً ورزقاً حسناً إنَّ في ذلكَ لآيةً لقومٍ يعقلون)
(النحل: 67).
تلفت
هذه الآية الكريمة النظر والإنتباه إلى النخيل والأعناب، فتنبه الإنسان إلى: " أن في هاتين الثمرتين
آية عظيمة لأولي الالباب، وحجة باهرة على التوحيد " .
نعم، إن
الثمرتين المذكورتين تعتبران غذاءً وقوتاً، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ
كثير من المواد الغذائية اللذيذة، رغم أن شجرة كل منهما تنمو في تراب جامد،
وتترعرع في أرض قاحلة. فكل منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق
الحكمة الربانية. وكل منهما مصانع سكر وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائع ذات
ميزان دقيق حساس وإنتظام كامل، ومهارة حكيمة، و إتقان تام، بحيث إان الذي يملك
مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر إلى القول: " إن الذي خلق هذه الاشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات
قاطبة " ؛ لأن ما نراه أمام أعيننا - مثلاً - من تدلي ما يقارب عشرين
عنقوداً من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة
من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبة من تلك الحبات مغلفة بغلاف رقيق لطيف
ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدة حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها.. نعم، إن
خلق كل هذا وغيره في جميع العنب وأمثاله - وهي لاتعد ولاتحصى - على وجه البسيطة
كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وإيجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة بأعدادها
الهائلة في وقت واحد، وعلى نمط واحد، ليثبت بالبداهة أن الذي يقوم بهذا الفعل إن
هو الاّ خالق جميع الكائنات، وأن هذا الفعل الذي اقتضى تلك القدرة المطلقة والحكمة
البالغة، ليس إلاّ من فعل ذلك الخالق الجليل.
نعم إن القوى العمياء والطبيعة
الصماء والأسباب التائهة المشتتة، لايمكن لها أن تمد أيديها وتتدخل في ذلك الميزان
الرقيق الحساس، بالمهارة البالغة، والإنتظام الحكيم لتلك الصنعة، بل هي تستخدم
وتسخّر بأمر رباني في الأفعال الربانية، فهي ذات مفعولية وقبول، بل ليست
الاّ ستائر وحجباً مسخرة بيده سبحانه.
وهكذا فكما
تشير هذه الآيات الثلاث إلى حقائق ثلاث، وتدل كل منها على التوحيد بثلاث نكات،
فهناك ما لايُحد من الأفعال الربانية وما لايحد من تجليات التصرفات الربانية، تدل
متفقة على الواحد الأحد وتشهد شهادة صادقة على ذات الواحد الأحد ذي الجلال
والاكرام.
*
* *
الحقيقة الثالثة
حقيقة الإيجاد والإبداع
أي إيجاد
الموجودات - وبخاصة النباتات والحيوانات - بكثرة مطلقة، في سرعة مطلقة، مع إنتظام
مطلق.. وخلق المخلوقات بسهولة مطلقة، في غاية الحسن والجمال مع المهارة المتقنة
والانتظام الكامل.. وإبداع المصنوعات في غاية النفاسة والجودة والتمييز الواضح مع
منتهى الوفرة وغاية الإختلاط والإمتزاج.
نعم، إن إيجاد
الأشياء في منتهى الكثرة بمنتهى السرعة، وفي منتهى السهولة واليسر بمنتهى الإتقان
والمهارة وبالدقة والإنتظام، وفي منتهى الجودة وغلاء القيمة والتميز مع منتهى
الوفرة والمبذولية دون خلط أو لبس أو اختلال رغم كثافة الفروق والتباينات.. لايمكن
أن يتم هذا الإيجاد - ولن يتم - إلاّ بقدرة قادر واحد احد لايؤوده شئ ولايصعب على
قدرته شيء.
نعم، ولكي ندرك ما نراه ونشاهده بأعيننا
ينبغي أن تكون النجوم والذرات على حد سواء أمام تلك القدرة. وأكبر الأشياء كأصغرها
والأفراد غير المحدودة للنوع كالفرد الواحد منه، والكل المحيط العظيم كالجزء
الصغير الخاص، وأحياء الأرض الهائلة كأحياء شجرة واحدة، و إنشاء الشجرة الشاهقة كإيجاد
بذرة متناهية في الصغر.
وبهذا السر
المهم الذي تتضمنه هذه المرتبة التوحيدية، وهذه الحقيقة الثالثة وكلمة التوحيد،
أي: كون أكبر " كلّ " كأصغر " جزء " أمام القدرة الربانية دون أن يكون أدنى فرق بين الكثير
والقليل، تنكشف الأسرار
الدقيقة الخفية للقرآن الكريم. وببيان وتوضيح هذه الحكمة المحيرة واللغز العظيم
الذي هو خارج طور العقل - مع انه أهم اساس للاسلام وأعمق مدار للايمان واللبنة
الكبرى للتوحيد - يُدرك أخفى الأسرار المجهولة لحقيقة خلق الكون التي عجزت الفلسفة
عن إدراكها. فألف شكر وشكر، وألف حمدٍ وثناء لخالقي الرحيم أرفعه بعدد حروف رسائل
النور، أن تمكنت (رسائل النور) حلّ هذا السر العجيب، وكشفت هذا الذي يظنه الجاهل
غموضاً غريباً، بل أثبتته ببراهين قاطعة. وبخاصة في بحث " وهو على كل شئ قدير " الموجود في نهاية " المكتوب العشرين " وفي بحث " الفاعل مقتدر " من " الكلمة التاسعة والعشرين " فأثبتت سعة القدرة الإلهية وطلاقتها بالبراهين القاطعة بدرجة حاصل
ضرب الإثنين في إثنين يساوي أربعاً وذلك في مراتب " الله اكبر " من " اللمعة التاسعة والعشرين " التي اُلّفت باللغة العربية..
فمع اِحالة
الإيضاح والتفصيل إلى هناك أردت أن أبين هنا بياناً مجملاًً، كفهرست مختصر
تلك الأسس والأدلة التي تعالج هذا السر وتكشفه وتوضحه، ثم الاشارة الى ثلاثة عشر
سراً بثلاث عشرة مرتبة، وبدأت بكتابة السر الاول والثاني، ولكن مانعين قويين
ماديين ومعنويين حالا - مع الاسف - بيني وبين كتابة بقية الأسرار في الوقت الحاضر.
السر الاول: اذا كان
الشئ ذاتياً، فلا يكون ضده عارضاً له، لأنه اجتماع الضدين وهو محال. فبناءً
على هذا السر:
مادامت القدرة الإلهية ذاتية وهي
الضرورة اللازمة للذات المقدسة، فلايمكن أن يكون العجز الذي هو ضد تلك القدرة
عارضاً للذات القادرة. وما دام وجود المراتب في الشئ الواحد يكون بتداخل ضده -
مثلما تتكون مراتب قوة الضياء وضعفه بمداخلة الظلمة، ودرجات ارتفاع الحرارة
وهبوطها بتداخل البرودة، ومقادير شدة القوة وضعفها بمقابلة المقاومة وممانعتها لها
- فلا يمكن ان تحتوى تلك القدرة الذاتية على مراتب.. فهي تخلق الأشياء وتوجِدها
كالشئ الواحد. فمادامت تلك القدرة الذاتية متجردة من المراتب ومن الضعف ومن النقص، فلا جرم أن لايقف أمامها مانع
ولايصعب عليها إيجاد. وما دامت لايشق عليها شيء فلابد أن يكون لديها إيجاد الحشر
الأعظم كسهولة إيجاد الربيع، وإيجاد الربيع كبساطة إيجاد شجرة واحدة، وإيجاد
الشجرة كيسر إيجاد زهرة واحدة، وإنها تقوم بالإيجاد بهذه السهولة واليسر كما تقوم
بها في أدق ما تكون الصنعة والإتقان. فنرى أنها تخلق الزهرة بإتقان الشجرة
وبأهميتها وقيمتها، وتخلق الشجرة بإعجاز صنع الربيع الهائل، وتخلق الربيع بشمولية
الحشر وجامعيته وإعجازه، هكذا تخلق، وهكذا نشاهد خلقها أمام أعيننا.
وقد اثبتت (رسائل النور) ببراهين
كثيرة قاطعة قوية أنه إن لم يُسند الخلق الى الوحدة والوحدانية يصبح خلق زهرة
واحدة صعباً كصعوبة خلق شجرة بل أصعب، ويصبح خلق الشجرة أعقد من خلق الربيع. وفوق
ذلك سيسقط جميعها من حيث القيمة والإتقان في الصنعة، فالكائن الذي يُخلق في دقيقة
واحدة سيُصنع في سنة، بل يستحيل صنعه بالمرة. فبناءً على هذا السر:
فإن جميع الأثمار والأزهار والأشجار
والأحياء الدقيقة المرتبطة بها، تخرج إلى الوجود في غاية الوفرة والكثرة مع أنها
في منتهى الجودة والنفاسة، وتظهر في منتهى السرعة واليسر مع أنها في غاية الإتقان
والصنعة، فتخرج إلى الوجود بانتظام، مؤدية وظائفها وتسبيحاتها، وموكلة بذورها
بديلة عنها، ماضية هي في سبيلها.
السر الثاني: كما أن
شمساً واحدة تشع ضياءً إلى مرآة واحدة، بتجلٍ من القدرة الذاتية و استناداً إلى سر
النورانية والشفافية والطاعة، فإنها تنعكس بسهولة بالصورة نفسها - ذات الضياء
والحرارة - بالفعالية الواسعة لقدرتها غير المحددة بأمر إلهى، إلى مالا يحد من المرايا
والمواد اللماعة والقطرات.
واذا نُطقت
بكلمة واحدة، فإن هذه الكلمة تدخل بسهولة تامة إلى أذن شخص - استناداً إلى السعة
المطلقة للخلاقية - وتدخل أذهان ملايين الأشخاص وآذانهم ببساطة ويسر بالأمر
الرباني، فأمامها آلاف المستمعين والمستمع الواحد سواء ولا فرق بينهما.
ومثلما تنظر
العين إلى مكان واحد وآلاف الأمكنة بسهولة كاملة، فإن نوراً أو نورانياً روحانياً
- كجبريل عليه السلام - في الوقت الذي يشاهد ويذهب ويحضر في مكان واحد بكل سهولة -
استناداً إلى كمال سعة الفعالية الربانية في تجلي الرحمة - فهو كذلك يشاهد ويذهب
ويحضر - بالقدرة الإلهية - بالسهولة نفسها في آلاف الأماكن. فلا فرق هنا بين القلة
والكثرة.
وهكذا القدرة الذاتية الأزلية - ولله
المثل الاعلى - فلكونها ألطف نور وأخصّه بل هي نور الأنوار كلها، ولكون ماهية الأشياء
وحقائقها وأوجه الملكوتية فيها شفافة لمّاعة كالمرايا، ولأن كل شئ - ابتداءً من
الذرات الى النباتات وإلى انواع الأحياء قاطبة و إلى النجوم والشموس والاقمار -
تابع ومنقاد ومطيع على أتم وجه لحكم تلك القدرة الذاتية ومسخر ومجند وخاضع خضوعاً
مطلقاً لأوامر تلك القدرة الأزلية. فلا ريب أنها تنشئ الأشياء غير المحدودة
وتخلقها كالشيء الواحد، وتحضر عند كل شئ في كل آن وفي كل مكان. فلا يمنع شيء
شيئاً، فالكبير والصغير، والكثير والقليل، والجزء والكل، سواء عندها. لاتعجز عن شئ
ولا يصعب عليها شيء.
واستناداً إلى أسرار الإنتظام
والموازنة وإمتثال الأوامر، والطاعة للأحكام - كما ذكرت في الكلمة العاشرة
والتاسعة والعشرين - فإن سفينة ضخمة جداً يمكن أن تدار وتسيَّر بسهولة إدارة طفل
لدميته بأصبعهِ.. وإن قائداً مثلما يسوق جندياً واحداً بأمره: " هجوم " فإنه بالأمر
نفسه يسوق جيشاً منتظماً مطيعاً إلى الحرب.. وإذا كان هناك جبلان في حالة موازنة
على طرفي ميزان عظيم حساس جداً ثم أوتي بميزان آخر ووضع في كل من كفتيه بيضة في
معادلة تامة، فمثلما يمكن لجوزة واحدة أن ترفع إحدى الكفتين إلى الأعلى والأخرى إلى
الأسفل، كذلك تستطيع تلك الجوزة نفسها - بقانون الحكمة - أن ترفع احدى كفتي
الميزان العظيم الحامل للجبل إلى قمة جبل وتنزل الأخرى إلى قعر الوادي.
فكما أن الأمر هكذا، كذلك الأمر في
القدرة الربانية حيث إنها مطلقة غير متناهية، وهي نورانية، وهي ذاتية وهي سرمدية،
وتوجد معها الحكمة المطلقة والعدالة التامة اللتان هما منشأ جميع الإنتظام والأنظمة
والموازنة ومنبعها ومدارها ومصدرها، فالجزئي والكلي والكبير والصغير من أي شيء كان
ومن كل شئ مسخر لحكم تلك القدرة ومنقاد لتصرفها.. لذا فإن تلك القدرة تسيِّر
النجوم والسيارات بسهولة إدارة الذرات وتحريكها؛ وذلك بسر نظام الحكمة. وكما أنها
تحيي الذبابة في الربيع بسهولة، تسوق جميع طوائف الحشرات والنباتات والحيوانات إلى
ميدان الحياة وتحييها بالسهولة نفسها وبالأمر نفسه، وبالحكمة المتضمنة فيها و بسر
الميزان. وكما أنها تنبت شجرة في الربيع بسرعة فائقة فتنفخ الحياة في جذورها
وجذوعها التي هي كالعظام، فهي تحيي بتلك القدرة المطلقة الحكيمة العادلة وبالأمر
نفسه هذه الأرض الهائلة التي هي كجنازة ضخمة، مثلما أحيت تلك الشجرة في الربيع
ببساطة، موجدةً مئات الآلاف من أنواع الأمثلة والنماذج الدّالة على الحشر والنشور.وكما
انه سبحانه يحيي الأرض بأمر تكويني فإنه بمضمون الآيات الجليلة الآتية:
(إن كانت اِلاّ
صيحةً واحدةً فاذا هم جميعٌ لدينا مُحضرون) (يس: 53).
(وما أمرُ الساعةِ إلاّ كلمح البصر
او هوَ أقرب) (النحل: 77).
(ما خلقكم ولا بعثُكم إلاّ كنفسٍ
واحدة) (لقمان:28).
يأتي بجميع الإنس والجن وما هو
حيواني وروحاني وملائكي، يأتي بهم جميعاً بالأمر نفسه بالسهولة نفسها إلى ميدان
الحشر الأكبر وأمام الميزان الأعظم، فلا يمنع فعل فعلاً قط.. هذا وقد أُجلت كتابة
بقية الاسرار من السر الثالث الى الثالث عشر خلاف رغبتي إلى وقت آخر بمشيئة الله.
*
* *
الحقيقة الرابعة
كليّة الموجودات وظهورها معاً
إن وجود
الموجودات وظهورها معاً، متداخلة، مشابهاً بعضها البعض الآخر، وكون بعضها مثالاً
مصغراً للآخر، أو نموذجاً أكبر له، وكون قسم منها كلاً وكليّاً وبقية الأقسام
أجزاؤه وأفراده، مع التشابه في ختم الفطرة وسكتها، والعلاقة الوثيقة في نقش
الصنعة والاتقان، والتعاون فيما بينها، وإكمال كل منها وظيفة الآخر الفطرية..
وأمثال هذه من النقاط العديدة لجهة الوحدة الكثيرة في الموجودات، تعلن التوحيد
بداهة، وتثبت أن صانعها واحد أحد، وتُظهر - من جهة الربوبية المهيمنة - أن
الكائنات قاطبة لاتقبل التجزئة والانقسام. فهي بحكم الكل والكلّي.
مثال ذلك: إن
ايجاد أفراد لايحصرها العد لأربعمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات في
الربيع، وإدارتها معاً في آن واحد، وعلى نمط واحد، رغم تداخل بعضها في البعض
الآخر، من دون خطأ أو خلل، وإعاشتها بكمال الحكمة وحسن الصنعة والإتقان.. وكذا خلق
أفراد غير محدودة لأنواع الطيور إبتداءً من مثالها المصغر - الحشرات - إلى مثالها
الأكبر - الصقور - ومنحها القدرة على السياحة والتجوال في الجو، وتجهيزها بأجهزة
تساعدها على المعيشة والحركة والتنزه ونثر البهجة في الجو، ووضع سكة الصنعة
المعجزة وختمها في وجوهها، وتركيب ختم الحكمة في أجسامها بكل تدبير، وإيداع طغراء
الأحدية في ماهيتها بكل إعتناء وتربية.. وكذا إمداد خلايا الجسم بذرات الطعام،
وإمداد الحيوانات بالنباتات، وإمداد الانسان بالحيوانات، وإمداد الصغار العاجزين
بحنان الوالدات ورعايتهن، وجعل هذا السعي والإمداد والمعاونة تتم في اطار حكمة
تامة وضمن رحمة كاملة.. وكذا التصرف بالنظام نفسه والإبداع نفسه وبالفعل نفسه
والحكمة نفسها، ابتداءً من مجرة درب التبانة - من الدوائر الكونية الهائلة - الى
المنظومة الشمسية، وإلى العناصر الأرضية بل حتى الى حدقة العين وأوراق براعم الأوراد
وأغلفة عرانيس الذُرة والبذور الكامنة في البطيخ - مثلاً - كأنها دوائر متداخلة
بعضها في البعض الآخر وبحكم الجزئي والكلي.. كل ذلك ليثبت بداهة ان الذي يقوم بهذه
الأفعال إنما هو واحد أحد، وضع سكته وختمه على ناصية كل شئ في الوجود، وكما
لايحده مكان فهو حاضر في كل مكان، وهو قريب إلى كل شئ، رغم أن كل شئ بعيد عنه،
كالشمس. وكما يسهل عليه أصعب أمور الدوائر الكونية العظيمة والمنظومة الشمسية،
لاتخفى عليه أيضاً أصغر أمور الكريات في الدم، وأدق الخواطر القلبية. فلا شئ يبقى
خارج إدارته ودائرة تصرفه. ومهما كان الشئ كبيراً او كثيراً فهو سهل ويسير عليه
كأصغر شئ وأقله، فيخلق الحشرة الصغيرة في نظام الصقر و إتقانه، ويخلق الزهرة في
ماهية الشجرة وانتظامها، ويخلق الشجرة في صورة الحديقة و إبداعها، ويخلق الحديقة
في روعة الربيع وزهوه، ويخلق الربيع في عظمة الحشر وهيبته. وهو يقدّم إلينا أكثر الأشياء إتقاناً
وأغلاه ثمناً بسعر بخس زهيد بل يحسنه إلينا إحساناً، ثم لايطلب منا إلاّ: " بسم الله " و " الحمد لله " أي أن الثمن المقدّر لتلك
النعم، هو " بسم الله
الرحمن الرحيم " ابتداءً و " الحمد لله " ختاماً.
نكتفي بهذا
القدر نظراً لقيام رسائل النور بإيضاح هذه الحقيقة الرابعة وإثباتها بتفصيل اكثر.
ورأى صاحبنا السائح في المنزل الثاني:
*
* *
الحقيقة الخامسة
الإنتظام الأكمل ووحدة المواد
أي وحدة الإنتظام
الأكمل في مجموع الكون وأركانه وأجزائه بل في كل موجود فيه، ووحدة موظفي ومواد
الكـون الواسع التي هـي محور إدارته ومتعلقة بهيئته العامة. وكون الأسماء والأفعال
المصّرفة لتلك المدينة العظيمة والمحشر العجيب محيطة وشاملة كل شيء، فالإسم هو
نفسه والفعل هو نفسه والماهية هي نفسها في كل مكان، رغم تداخل بعضه في البعض
الآخر، وكون العناصر والأنواع التي هي الأساس في بناء ذلك القصر الفخم وفي إدارته
وفي إضفاء البهجة عليه، محيطة بسطح الارض بإنتشارها في أكثر بقاعها، مع بقاء
العنصر نفسه، والنوع نفسه واحداً، وذا ماهية واحدة في كل مكان رغم تداخل بعضه في
البعض الآخر.. كل ذلك يقتضي بداهة، ويدل ضرورة ويُشهد ويُري أن صانع هذا
الكون ومدبّره، وأن سلطان هذه المملكة ومربيها، وأن صاحب هذا القصر وبانيه، واحد
أحد فرد، ليس كمثله شيء، لاوزير له ولامعين، لاشريك له ولاند، منزّه عن العجز،
متعال عن القصور.
نعم إن الإنتظام
التام إنما هو دليل بذاته على الوحدة؛ إذ يستدعى منظماً واحداً، فلا يسعه الشرك
الذي هو محور المجادلة والمشاكسة.
فما دام هناك
إنتظام حكيم ودقيق في الكون كله - كلياً كان الشيء أم جزئياً - ابتداءً من دوران
الأرض اليومي والسنوي، إلى سيماء الانسان، وإلى منظومة شعوره، وإلى دوران الكريات
الحمر والبيض وجريانهما في الدم، فلا يمكن لشيء أن يمد يده ويتدخل قصداً و إيجاداً
سوى القادر المطلق والحكيم المطلق، بل يبقى كل شيء سواه منفعلاً ومتلقياً ومظهراً
للقبول ليس الاّ.
وما دام
القيام بالتنظيم ومنح النظام وبخاصة تعقّب الغايات وتتبعها وتنظيمها بإبراز
المصالح، لايكون إلاّ بالعلم والحكمة، وإلاّ بالإرادة النافذة والإختيار، فلابد أن
هذا الإنتظام الذي يدور مع الحكمة، وهذه الأنواع المتنوعة من الإنتظام في
المخلوقات غير المحدودة التي تتراءى أمام أنظارنا والدائرة حول المصالح، يدل بداهة
ويشهد بكل حال أن خالق هذه الموجودات ومدبرها واحد، وهو الفاعل، وهو
الذي بيده الإختيار، فكل شيء يخرج إلى الوجود إنما يخرج بقدرته هو، ويأخذ
وضعاً خاصاً بإرادته هو، ويتخذ صورة منتظمة بإختياره هو.
ومادام
السراج الوهاج لهذه الدنيا المضيف واحداً، وأن قنديلها المتدلي لعدّ الايام واحد،
وأن معصراتها ذات الرحمة واحدة، وأن مطبخها ذا الموقد واحد، وأن شرابها الذي يبعث
على الحياة واحد، وأن مزرعتها المحمية واحدة.. واحد.. واحد.. واحد الى ألف وواحد، فلابد
أن هذه الآحاد الواحدة تشهد بداهة أن صانع هذا المضيف وصاحبه، واحد، وهو كريم
لضيوفه في منتهى الكرم والسخاء حتى أنه يسخر كبار موظفيه هؤلاء ويجعلهم خدماً طائعين
لضمان راحة ضيوفه الأحياء.
وما دامت واحدةً تلك الأسماء الحسنى
والشؤون الإلهية والأفعال الربانية التي تصرف أمور الكون والتي تظهر تجلياتها
ونقوشها وآثارها في كل أنحاء العالم.. فالأسماء الحسنى " الحكيم،
المصور، المدبر، المحيي، المربي " وأمثالها هي
نفسها في كل مكان.. وشؤون " الحكمة
والرحمة والعناية " وأمثالها هي
نفسها في كل مكان.. وأفعال " التصوير والإدارة
والتربية " وأمثالها هي
نفسها في كل مكان.. وكل منها متداخل بعضه في البعض الآخر، وكل منها في أسمى مرتبة
وأوسع إحاطة وهيمنة، كما أن كلا منها يكمل نقش الآخر حتى لكأن تلك الاسماء
والافعال تتحد مع بعضها اتحاداً، فتصبح القدرة عين الحكمة والرحمة، وتصبح الحكمة
عين العناية والحياة. فعندما يظهر - مثلاً - تصرف اسم المحيي في شيء ما، يظهر تصرف
اسم الخالق والمصور والرزاق وأسماء أخرى كثيرة كذلك في الوقت نفسه، في كل مكان
وبالنظام نفسه، فلابد ولامحالة أن ذلك يشهد بداهة على أن مسمّى تلك الأسماء
المحيطة، وفاعل تلك الأفعال الشاملة والظاهرة في كل مكان بالطراز نفسه، إنما هو
فاعل واحد أحد فرد.. آمنــا وصدّقنا !.
ومادامت العناصر التي هي مكونات المصنوعات وجواهرها
واسسها، تحيط سطح الارض وتتوزع عليه، وكل نوع من أنواع المخلوقات - الحاملة لأختام
مختلفة تظهر الوحدانية - قد انتشر على ظهر الأرض واستولى عليه، رغم كونه نوعاً
واحدا،ً فلابد أن تلك العناصر بمشتملاتها، وتلك الأنواع بأفرادها، إنما هي مُلك
لواحد، ومصنوعات مأمورة لدى
ذلك الواحد القادر الذي يستخدم بقدرته المطلقة تلك العناصر الضخمة المستولية كأنها
خَدَمة طائعات، ويسخّر تلك الأنواع المتفرقة في كل جهة من الارض كأنها جنود
نظاميون.. وحيث ان (رسائل النور) قد أثبتت هذه الحقيقة وأوضحتها، نقتصر عليها
بهذه الاشارة القصيرة.
فلقد أحسّ
صاحبنا السائح المسافر بنشوة إيمانية بعد ان اكتسب الفيض الإيماني والتذوق
التوحيدي من فهمه لهذه الحقائق الخمس فأنشأ يترجم ملخصاً انطباعاته ومشاهداته
مخاطباً قلبه:
انظر
إلى الصحيفة الملونة الزاهية لكتاب الكون
الوسيع.
كيف جرى قلم
القدرة وصوّر البديع..
لم تبق
نقطة مظلمة لأرباب الشعور..
لكأن
الرب قد حرّر آياته بالنور.
واعلم ايضاً
بأن:
هذه الأبعاد
غير المحدودة صحائف كتاب العالم
وهذه العصور
غير المعدودة سطور حادثات الدهر
قد
سطّر في لوح الحقيقة المحفوظ :
كل موجود في
العالم، لفظ مجسم حكيم
وأنصت
كذلك:
كل شئ في
الوجود ينطق ويردد معاً: لاإله إلاّ الله،
ويلهج دوماً كل آن: يا حق.. فالكل
ينطق والجميع يهتف: ياحي.
نعم؛
وفي كل شئ له
آية تدل على
انه واحدٌ.
وهكذا صدّق
قلب السائح نفسه، وقالا معاً: نعم، نعم.
هذا وقد جاءت
في المنزل الثاني من الباب الثاني من المقام الأول إشارة قصيرة إلى ماشاهده سائح
الكون والضيف فيه من الحقائق التوحيدية الخمس، وهي:
[لا إله إلاّ الله الواحـد الأحـد
الذي دلّ على وحدته في وجوب وجوده: مشاهدة حقيقة الكبرياء والعظمة فـي الكمال والإحاطة.
وكذا مشاهدة حقيقة ظهور الأفعال بالإطلاق وعدم النهاية، لا تقيدها الإّ الإرادة
والحكمة. وكذا مشـاهدة حقيقة إيجاد الموجودات بالكثرة المطلقة فـي السرعة المطلقة،
وخلق المخلوقات بالسهولة المطلقة في الإتقان المطلق، وإبداع المصنوعات بالمبذولية
المطلقة فـي غاية حسن الصنعة وغلو القيمة. وكذا مشاهدة حقيقة وجود الموجودات على
وجه الكل والكلية والمعية والجامعية والتداخل والمناسبة. وكـذا مشاهدة حقيقة الإنتظامات
العامة المنافية للشركة. وكذا مشاهدة وحدة مدارات تدابير الكائنات الدالة علـى وحدة
صانعها بالبداهة. وكذا وحدة الأسماء والأفعال المتصرفة المحيطة، وكـذا وحدة
العناصر والانواع المنتشرة المستولية على وجه الارض].
*
* *
وحينما كان
ذلك السائح في العالم يجول في العصور صادف مدرسة مجدد الألف الثاني الإمام الرباني
أحمد الفاروقي فدخلها وبدأ يصغي اليه. كان الإمام يقول في
ثنايا درسه: "
إن أهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الإيمانية
وانجلاؤها، وإن وضوح مسألة واحدة وانكشافها لهو ارجح من ألفٍ من الكرامات " .
وكان يقول
ايضاً: "
لقد
قال بعض العظماء في السابق:إنه سيأتي أحد من المتكلمين ومن علماء علم الكلام
وسيثبت بدلائل عقلية إثباتاً واضحاً جميع الحقائق الإيمانية والإسلامية، وياليتني
أنا ذلك الشخص، بل ربما هو أنـا (لقد اثبت الزمن ان ذلك الشخص ليس شخصاً ولا رجلاً
إنما هو «رسائل النور». وربما شاهد أهل الكشف فى كشفياتهم «رسائل النور» فى شخص
مترجمها ومبلّغها الذى لاقيمة له ولا أهمية،فقالو:إنه شخص. المؤلف.). حيث إن الإيمان
والتوحيد
هما أساس جميع الكمالات الإنسانية وجوهرها ونورها وحياتها، و أن دستور " تفكر
ساعة خير من عبادة سنة
" يخص
التفكر الإيماني، وما الذكر الخفي في الطريقة النقشبندية وأهميته إلاّ نوع من أنواع
هذا التفكر السامي
" .
هكذا كان الإمام يعلّم، والسائح ينصت ويصغي بكل إهتمام. ثم
رجع غلى نفسه وخاطبها:
لما كان هذا الإمام الهمام يقول كذا،
وان إزدياد قوة الايمان ولو بمقدار ذرة هو أثمن من أطنان من كسب المعارف
والكمالات، بل هو ألذ وأطيب مائة مرة من حلاوة الأذواق والوجد. وحيث أن الاعتراضات
والشبهات المتراكمة حول الإيمان والقرآن - التي تثيرها فلاسفة اوروبا منذ ألف سنة
- قد وجدت سبيلها إلى قلوب المؤمنين، فيهاجمون بها أهل الإيمان، ويحاولون بذلك
زعزعة الأركان الإيمانية التي هي أساس السعادة الأبدية، ومدار الحياة الباقية،
ومفتاح الجنة الخالدة. فلابد إذاً - وقبل كل شيء
- أن نزيد إيماننا قوة ونحوّله من إيمان تقليدي إلى إيمان تحقيقي.
فهيا بنا أيتها
النفس لنسرْ قدماً مع هذه المراتب الإيمانية التسع والعشرين التي وجدناها، والتي
كل منها راسخة رسوخ الجبل الأشم قاصدين إيصالها إلى عدد الأذكار والتسبيحات
المباركة للصلاة وهي الثلاث والثلاثون. فلنطرق باب الإدارة والإعاشة الربانية في
عالم الأحياء الذي يترقرق عبراًً وعظات، ونفتحه بمفتاح (بسم الله الرحمن
الرحيم) كي نرى المنزل الثالث ونشاهد ما فيه...
فطرق السائح
باب المنزل الثالث الذي هو محشر العجائب ومجمع الغرائب، طرقه بكل استرحام ورفق ولطف،
ومن ثم فتحه ب
" بسم الله الفتاح "
فبدا
له المنزل الثالث ودخل فيه، ووجد أن هناك أربع حقائق عظمى محيطة تنير ذلك المنزل
وتكشف التوحيد وتبينها كالشمس الساطعة.
*
* *
الحقيقة الاولى: وهي حقيقة " الفتاحية "
أي انفتاح ما
لايحد من الصور المنتظمة المتنوعة المختلفة بتجلي إسم " الفتاح " من مادة بسيطة جداً، وانكشافها معاً في كل طرف من أنحاء العالم،
وفي آن واحد، وبفعل واحد.
نعم، كما أن
القدرة الفاطرة قد فتحت الموجودات المختلفة غير المحدودة، في رياض الكائنات كتفتح
الأزهار؛ فأعطت باسم " الفتاح " كلاً منها طرزاً منتظماً يناسبه، وشخصية منفردة تميزه. فقد منحت
كذلك - بشكل أكثر إعجازاً - صورة موزونة، مزينة، ومتميزة، لكل ذي حياة من أربعمائة
ألف نوع من أنواع الاحياء في حديقة الأرض، وهي في غاية الأتقان والحكمة.. نعم، إن
فتح الصور هذا أقوى دليل على التوحيد، وأعجب معجزة للقدرة الإلهية، حسب ما تفيده
الآيات الكريمة:
(يخلقكم
في بطون أُمهاتِكم خَلقاً من بعدِ خلقٍ في ظُلمات ثلاث ذلكُم الله ربُّكم له
المُلكُ لا إله إلاّ هو فأنَّى تُصرفون) (الزمر:6).
(إن
الله لا يخفى عليه شىءٌ في الارض ولا في السماء _ هُو الذي يُصوركم في الارحام كيف
يشاء لا إله إلاّ هُو العزيز الحَكيمُ) (آل عمران: 5، 6).
فبناءً على
هذه الحكمة، ونظراً لإفاضة (رسائل النور) في بيان حقيقة فتح الصور بصورة متنوعة
(وبخاصة في المرتبة السادسة والسابعة من الباب الاول من هذه الرسالة). فنحن نحيل
اليها ونكتفي هنا بالقول:
لقد ظهرت
نتيجة الدراسات المتواصلة والبحوث الدقيقة لعلمي النبات والحيوان وبشهادتهما، أن
فتح الصور هذا له من الإحاطة والشمول والإتقان ما لايمكن ان يملك هذا الفعل
الجامع المحيط سوى الواحد الأحد القادر المطلق الذي يرى كل شئ، ويصنعه؛ ذلك لأن
فعل فتح الصور هذا يحتاج إلى وجود منتهى الحكمة، ومنتهى الدقة، ومنتهى الإحاطة ضمن
قدرة مطلقة تهيمن في كل مكان وفي كل آن. فقدرة كهذه لايملكها الاّ الواحد الأحد
الذي بيده مقاليد الارض والسماوات.
نعم فكما جاء
في الآية الكريمة المذكورة في ظلمات ثلاث فإن خلق الانسان، وفتح صوره، واحدة
واحدة، في أرحام الوالدات بميزان وزينة، وبانتظام وتميّز، دون خلط او اختلاط، او
خطأ او نقص، من مادة بسيطة دليل قاطع على الوحدانية. ومن ثم إحاطة هذه الحقيقة -
فتح الصور - وشمولها بالقدرة نفسها، والحكمة نفسها، والصنعة نفسها، للناس كافة،
وللحيوانات كافة، وللنباتات كافة، على أرجاء الارض كافة، لهي أقوى برهان على الوحدانية؛
ذلك لأن فعل الإحاطة هو بذاته وحدة واحدة لايترك مجالاً للشرك.
ومثلما أن
الحقائق التسع عشرة في الباب الأول قد شهدت (بوجودها) على وجوب وجود الخالق
سبحانه، فهي تشهد كذلك (بإحاطتها) على الوحدة والوحدانية..
والحقيقة
التي رآها صاحبنا السائح في المنزل الثالث هي:
*
* *
الحقيقة الثانية: وهي حقيقة " الرحمانية "
وهي تعني أن
هناك واحداً جعل لنا الأرض - كما هي ظاهرة أمام أعيننا - مضيفاً رائعاً، وغمر
وجهها بآلاف هدايا الرحمة، وفرش لنا بتلك الرحمة مأدبة تحوي مئات الآلاف من
مختلف الأطعمة اللذيذة المعدّة على تلك المائدة، وجعل لنا جوف الأرض - برحمته
وحكمته - مخزناً جامعاً عظيماً لآلاف إحساناته وآلائه القيمة. ويقوم بتربيتنا تربية
في منتهى الرحمة، بتحميله الأرض من عالم الغيب في دورتها السنوية - كأنها
باخرة تجارية - بمئات الآلاف من أجود أنواع صنوف اللوازم الحياتية للإنسان وأجملها،
ويرسلها كل سنة كأنها سفينة مشحونة أو قطار معبأ، فكل ربيع فيها بمثابة قطار تقل
أرزاقنا وملابسنا. ولأجل أن ننتفع من تلك الهدايا والنعم كلها فقد وهبنا المئات بل
الآلاف من الأرزاق والحاجات والرغبات والمشاعر، والحواس..
فرحمة كهذه التي تحيط بالدنيا وبالآخرة معاً،
وبكل شيء. لابد أنها تجلٍ من تجليات " الأحدية " في تلك " الواحدية " . أي كما أن إحاطة
ضياء الشمس وشموله جميع الأشياء المقابلة لها مثال بارز على "الواحدية " فان أخذ كل شيء
شفاف ولماع حسب قابليته ضياء الشمس وحرارتها والألوان السبعة التي فيها
وانعكاساتها، مثال على " الأحدية " . لذا فان
الذي يرى ضياء الشمس المحيط للعالم يحكم بأن شمس الأرض واحدة، وأنه بمشاهدته
اِنعكاس ضياء الشمس ذي الحرارة من كل شئ براق، حتى من القطرات، يتمكن ان يقول
بأحدية الشمس، أي أنها قريبة من كل شئ بصفاتها، فهي في مرآة قلب كل شئ.
فكما أن الأمر
في المثال هكذا - ولله المثل الاعلى - فإن إحاطة رحمة الرحمن ذي الجمال
اِحاطة شاملة، كالضياء، تظهر واحدية ذلك الرحمن وعدم وجود شريك له في أية جهة
من الجهات، وأن وجود تجليات أنوار أكثر أسماء ذلك الرحمن، ونوعاً من تجلٍ
لذاته المقدسة في كل شيء، ولاسيما في كل ذي حياة وبخاصة في الإنسان - بما منحه
الرحمن تحت ستار رحمته الواسعة الجامعة من حياة جامعة لكل فرد بحيث تمكنه ان يتوجه
بها الى الكائنات كافة وينسج علاقات وروابط معها - يثبت أحدية ذلك الرحمن سبحانه،
وحضوره لدى كل شيء، وأنه " هو " الذي يعمل كل شيء لأي شئ كان.
نعم كما إن
ذلك الرحمن بواحدية تلك الرحمة وبإحاطتها يظهر هيبة جلاله وبهائه على الكون كله،
على الأرض كلها. فإنه بتجلي أحديته في كل ذي حياة، وبخاصة في الانسان، وبجمعه جميع
نماذج تلك النعم وغرزها في أعضاء ذلك الكائن الحي، وفي أجهزته وتنظيمها، وبجعله
ذلك الفرد الواحد يتخذ - من جهة - الكائنات كافة دون تشتت مسكنه ومأواه، كأنه يعلن
رأفة جماله، ويعرّف تمركز أنواع إحسانه في الإنسان.
فلو أخذنا
البطيخ مثالاً، فان في كل بذرة من بذوره يوجد البطيخ نفسه. فخالق تلك البذرة
الواحدة لابد أنه هو خالق ذلك البطيخ. إذ يستدرّ تلك النواة منه ويجمعها ويجعلها
تتجسم بموازين علمه الخاصة وبقوانين حكمته التي تخصه. فليس هناك شيء قط يستطيع أن
يصنع تلك النواة سوى البديع الواحد لذلك البطيخ، بل إن إيجاد غيره له محال أصلاً. وبناءً
على هذا فقد أصبح الكون - بتجلي الرحمانية - بمثابة شجرة وبستان، وغدت الأرض
كالثمرة وكالبطيخ، وصار ذوو الحياة والإنسان كالبذرة، لذا ينبغي أن يكون خالق أصغر
الأحياء هو خالق الأرض قاطبة ورب أدق الاحياء هو رب الكون كله.
نحصل مما
سبق:
![]() |
وفي كل شيء له آية تدل على انه واحدٌ |
وحيث ان
(رسائل النور) هي من مظاهر إسمَي " الحكيم " و " الرحيم " من الأسماء الحسنى وأن إيضاح لطائف " حقيقة الرحمة " وتجلياتها مع إثباتها قد ورد في مواضع عدة من الرسائل. لذا
إقتصرنا هنا على الاشارة اليها بهذه القطرة من ذلك البحر الواسع.
وما رآه
صاحبنا السائح وشاهده في المنزل الثالث هو:
*
* *
الحقيقة الثالثة: وهي حقيقة التدبير
والإدارة
أي حقيقة
اِدارة الاجرام السماوية وهي في منتهى السرعة والضخامة، وإدارة العناصر وهي في
منتهى الاختلاط والتشابك، وإدارة المخلوقات الأرضية وهي في منتهى الحاجة والضعف، إدارةً
تتسم بكمال الإنتظام والموازنة ويسعى بعضها لمعاونة البعض الآخر، رغم اختلاطها
وامتزاجها ببعض. أي هي حقيقة النظر في إدارة أمورها جميعاً وجعل هذا العالم العظيم
كأنه مملكة كاملة، ومدينة رائعة ضخمة، وقصر منيف مزين.
وسنأخذ هنا
صورة واحدة مقتضبة لجريان تلك الإدارة وسريانها على صفحة واحدة من سطح الارض وفي
صحيفة واحدة في الربيع، تاركين تلك الدوائر الجبارة والصحائف الواسعة التي تتقطر
رحمة. نظراً لأنها قد وضحت وأثبتت في رسائل مهمة من (رسائل النور) كالكلمة العاشرة
وسنبينها بمثال على النحو الآتي:
اذا قام شخص
عظيم خارق بتشكيل جيش من أربعمائة ألف أمة وطائفة مختلفة،ووفّر ما يخص كل جندي من
تلك الأمم والطوائف المختلفة من الملابس والأسلحة والأرزاق والتعليمات والإعفاءات
والخدمات المختلفة المتنوعة جداً، وجهّزهم بالأجهزة المختلفة دون أدنى نقص أو قصور
أو خطأ، وزوّدهم بها في أوانه دون أدنى تأخير أو خلط، وبكمال الإنتظام، فلابد أن
تلك الإدارة وهي في منتهى السعة والإختلاط والدقة والموازنة والكثرة والعدالة ليس
إلاّ من قدرة خارقة لذلك القائد الخارق، فلايمكن لأي سبب أن يمد يده اليها. إذ لو
مدّ لأفسد تلك الموازنة ولاختلط الامر.
فكما ان الامر في هذا المثال هكذا؛
فاننا نشاهد بأعيننا كذلك ان يداً غيبية تنشيء في كل ربيع وتدير جيشاً مهيباً
مركباً من أربعمائة ألف من مختلف الأنواع من الأحياء، ثم في موسم الخريف - الذي
هو نموذج القيامة - تُعفي ثلاثمائة ألف من مجموع الأربعمائة ألف نوع من
وظائفها بصور الوفاة وباسم الموت. وفي الربيع - الذي هو مثال الحشر والنشور
- تنشيء ثلاثمائة ألف نموذج للحشر الأعظم في بضعة أسابيع بكمال الإنتظام. حتى انه
سبحانه بعد أن يرينا في الشجرة الواحدة أربعة أنواع من الحشر المصغر بنشره
الشجرة نفسها، وأوراقها، وأزهارها، وأثمارها -كما هي في الربيع الماضي- فانه يظهر
لنا ويثبت وحدانيته وأحديته وفرديته واقتداره المطلق ورحمته الواسعة ضمن كمال
الربوبية والحاكمية والحكمة، فيكتب سبحانه أمر التوحيد هذا بقلم القدر في صحيفة كل
ربيع على وجه الأرض، وذلك بمنحه كل نوع وكل طائفة من ذلك الجيش السبحاني البالغ
أنواعه أربعمائة ألف نوع، ما يخصه من أرزاقه المختلفة، وما يحتاجه من أسلحته
الدفاعية المتنوعة، وما يناسبه من ألبسته المتباينة، وما يلائمه من تعليماته
المتفاوتة وإعفاءاته المختلفة، وما يوافقه من جميع معدّاته ولوازمه. فيمنح سبحانه
كل ذلك بكمال الانتظام والميزان دون أدنى سهو او خطأ ودون خلط او نسيان، ويهبها له
في وقته المحدّد المعين، من مصادر لاتخطر على بال.
وبعد أن طالع
صاحبنا السائح صحيفة واحدة فقط في ربيع واحد فقط وشاهد فيها أمر التوحيد بجلاء
ووضوح خاطب نفسه قائلاً:
إن الذي أنشأ
هذه الأنواع من الحشر في كل ربيع، التي تربو على الألوف، وتفوق غرابة الحشر الاكبر
هو الذي وعد أنبياءه كافة بآلاف الوعود والعهود أن سيأتي بالحشر والقيامة للثواب
والعقاب، وهو أهون على قدرته من الربيع نفسه، وضمَّن آلاف الإشارات حول الحشر في
القرآن الكريم، الذي يقرر صراحة في ألف من آياته الكريمة على وعوده سبحانه
ووعيده.. فلاشك أن عذاب جهنم لهو عين العدالة بحق من يرتكب جحود الحشر أمام
ذلك القدير الجبار والقهار ذي الجلال..
هكذا حكم
صاحبنا السائح واطمأنت نفسه اليه فرددت هي أيضاً: آمنــا.
وما شاهده
سائح العالم في المنزل الثالث هو:
*
* *
الحقيقة الرابعة: وهي المرتبة
الثالثة والثلاثون، تلك هي حقيقة الرحيمية والرزاقية.
أي حقيقة
إعطاء الرزق إلى جميع ذوي الحياة وبخاصة ذوي الأرواح وبخاصة العاجزين والضعفاء
وبخاصة الأطفال والصغار على وجه الارض كافة وفي جوفها وفي جوها وفي بحرها، إعطاءهم
أرزاقهم كافة سواء المادية المَعَدية منها أو المعنوية القلبية بكل شفقة ورأفة
وذلك من الأطعمة المعمولة من تراب بسيط يابس ومن قطع خشب جافة جامدة كالعظم وبخاصة
إخراج ألطف تلك الأطعمة من بين فرث ودم وإخراج كميات هائلة من الأطعمة من بذرة
واحدة صلدة كالعظم وهي لاتزن درهماً؛ فإخراج كل ذلك في وقته المناسب وأمام أنظارنا
إخراجاً مقنناً دون نسيان أحد أو إلتباس او خطأ لهو حقيقة الإرزاق من لدن يد
غيبية. نعم، ان الآية الكريمة:
(إنَّ الله هو الرزّاقُ ذو القُوةِ المتين)
(الذاريات:58) التي تخصص الإعاشة والإنفاق وتحصرها في الحق سبحانه وتعالى. وكذا
الآية الكريمة:
(وما
من دابّةٍ في الارض الاّ على الله رِزقُها ويَعلَمُ مُستَقرّها ومستَودعَها كلٌ في
كتابٍ مُبين) (هود: 6) التي تأخذ أرزاق الناس والحيوان جميعها تحت
تعهد الرب سبحانه وكفالته. وكذا الآية الكريمة:
(وكأيّن
من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها الله يَرزُقُها وإيّاكُم وهو السميعُ العَليمُ) (العنكبوت:
60) التي تثبت وتعلن بأن الله سبحانه هو الذي يتكفل - كما هو مشاهد - بأرزاق
المساكين والضعفاء والعاجزين وأمثالهم ممن لايستطيعون أن يتداركوها، فيرسلها إليهم
من حيث لم يحتسبوا، ومن مصادر لا تخطر لهم على بال، بل من الغيب، بل من غير شيء،
كامثال الحشرات الموجودة في أعماق البحار التي تتغذى على غير شيء. وجميع الصغار
التي يأتيها رزقها من حيث لاتحتسب، وجميع الحيوانات التي قد تكفل سبحانه بأرزاقها،
وينفق عليها فعلاً من الغيب مباشرة - كما هو مشاهد في كل ربيع - حتى إنه هو
الذي يرسل أرزاق أولئك المفتونين بالأسباب تحت ستار الأسباب، فلا يرزقهم سواه.
فكما أن تلك الآيات الكريمة والظواهر المشاهدة تُري الرزاقية وتثبتها
وتعلنها هكذا، كذلك تبين آيات قرآنية كثيرة وشواهد كونية لاتحد متفقة أن كل ذي
حياة يربّى تحت كنف رحيمية رزاق واحد أحد ذي جلال.
![]() |
ولقد ساق
وجود قوة الإقتدار والإختيار والذكاء - المثير للحرص القائد الى الحرمان على الأغلب
- أولئك الأدباء الذين يستشعرون بها، إلى التذلل وإلى ما يشبه التسوّل، بينما أوصل
عدم الإقتدار المكلل بالتوكل أغلب العوام البُله إلى الثراء والغنى، حتى سار
مثلاً:
كم عالمٍ عالمٍ أعيتْ مذاهبُه
وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقاً
مما يثبت أن الرزق الحلال لايحصل
عليه المخلوق ولايجده بقوة الإقتدار والإختيار، وإنما يُعطى له من لدن مرحمة
قد قبلت كدّه وسعيه، ويحسن اليه من عند شفقة ورأفة رقّت على احتياجه
وافتقاره.
غير أن الرزق
نوعان:
الأول:الرزق
الحقيقي والفطري للمعيشة، الذي هو تحت التعهد الرباني، وهو مقدّر بحيث أن
المدّخر منه في الجسم بصورة دهون أو بصور اخرى يمكنه ان يعيّش الانسان ويديم حياته
أكثر من عشرين يوماً دون ان يذوق طعاماً. فالذين يموتون جوعاً في الظاهر قبل عشرين
او ثلاثين يوماً من دون ان ينفد رزقهم الفطري لاينشأ موتهم من انعدام الرزق، بل من
مرض ناشئ من سوء التعود ومن ترك العادة.
والقسم
الثاني من الرزق: هو الرزق المجازي والاصطناعي الذي يكون
بحكم الضروري بعد أن يدمن الإنسان عليه بالتعود والإسراف وسوء الإستعمال. وهذا
القسم ليس ضمن التعهد الرباني وتكفله بل هو تابع إلى إحسانه سبحانه. فاما
أن يمنحه او يمنعه.
فالسعيد - في هذا الرزق الثاني -
والمحظوظ فيه، هو من يعلم أن السعي الحلال بالإقتصاد والقناعة - وهما مدارا
السعادة واللذة - هو نوع من العبادة، وهو دعاء فعلي لكسب الرزق، لذا يقضي هذا
السعيد حياته بهناء ويقبل ذلك الاحسان شاكراً ممتناً.
والشقي التعس في هذا الرزق هو من
يتخلى عن السعي الحلال بالإسراف والحرص - وهما سبب الشقاء والخسارة والألم -
فيقضي حياته بل يهلكها بطرق كل باب بالكسل والتظلم والتشكي.
فكما أن المعدة تطلب رزقاً، فالقلب
والروح والعقل والعين والأذن والفم وأمثالها من لطائف الإنسان ومشاعره هي الأخرى
تطلب رزقها من الرزاق الرحيم، وتأخذه منه بكل شكر وامتنان. فيهب سبحانه لكل
منها من خزائن رحمته، رزقها الذي يناسبها وترضى به وتلتذ. بل ان الرزاق الرحيم قد
خلق كلاً من تلك اللطائف كالعين والاذن والقلب والخيال والعقل وامثالها بمثابة
مفتاح لخزينة رحمته كي يغمرها بالرزق الواسع. فمثلما العين مفتاح لخزائن الجواهر
القيمة من الحسن والجمال المنبسط على وجه الكائنات، فاللطائف الأخرى كذلك كل واحدة
منها مفتاح لعالم معين، تستفيد منه بالإيمان.. وعلى كل
حال فلنرجع الى أصل الموضوع.
فكما ان الخالق القدير الحكيم قد خلق
الحياة خلاصة جامعة مستخلصة من الكائنات يحشّد فيها مقاصده العامة وتجليات أسمائه
الحسنى. كذلك جعل الرزق في عالم الحياة مركزاً جامعاً للشؤون الربانية، خالقاً في
ذوي الحياة غريزة الإشتهاء وتذوق الرزق، ليفسح بذلك المجال لأهم غاية لخلق
الكائنات وحكمتها وهي جعل المقابل في شكر ورضى دائمين وكليين يتمان بكل خضوع
وعبودية تجاه ربوبيته وتودّده سبحانه.
فمثلاً:
أنه سبحانه قد عمّر كل طرف من أطراف المملكة الربانية الواسعة جداً؛ فعمَّر
السماوات بالملائكة والروحانيين، وعمَّر عالم الغيب بالأرواح، كما عمَّر العالم
المادي - لحكمة بث الروح واضفاء البهجة فيه وبخاصة عالم الهواء والأرض، بل كل جهة
منه وفي كل وقت و أوان - بوجود الأحياء وبخاصة الطيور والطويرات والحشرات. فغرز
الاحتياج للرزق وتذوقه في الحيوانات والانسان؛ وجعلهم يسعون دوماً وراء رزقهم. وكأن
ذلك الاحتياج سوط تشويق لهم يسوقهم ويحركهم ويجريهم وراء الرزق منتشلاً إياهم من
الكسل والعطالة، وما ذلك إلاّ حكمة من حكم الشؤون الربانية. ولولا امثال
هذه الحكمة من الحكم المهمة لكان سبحانه يجعل التعيينات المقننة للحيوانات تسعى
اليها دون كدٍ وعناء ولحاجة فطرية كما جعل ارزاق النباتات تسعى اليها هكذا.
ولو وجدت عين تستطيع رؤية أنواع
الجمال لإسم الرحيم وأوجه الحسن لإسم الرزاق وشهادتهما للوحدانية رؤية ً تامة بحيث
تتمكن من الإحاطة كلياً بسطح الأرض ومشاهدته في آن واحد، لكانت ترى مدى متعة
الجمال ومدى لذة الحسن في تجلي شفقة الرزاق الرحيم ورأفته الذي يمدّ إمداداً
غيبياً ويحسن احساناً رحمانياً قوافل الحيوانات التي كادت تنفد أرزاقها في أواخر
الشتاء، بأطعمة ونِعم ٍفي منتهى اللذة ومنتهى الكثرة ومنتهى التنوع مودعة إياها في
ايدي النباتات وموضوعة على هامات الاشجار ومعلقة في اثداء الوالدات ومرسلة لها من
خزائن رحمة غيبية صرفة. وعند ذلك تدرك بأن الذي يصنع تفاحة واحدة - مثلاً - ويهبها
رزقاً حقيقياً ، منعماً بها على شخص، لايمكن ان يكون الاّ الذي يدير كل المواسم
والليالي والايام ويجعل الكرة الارضية كسفينة تجارية يبحر بها ويسيرها مستحصلاً
بها محاصيل المواسم فيأتي بها الى ضيوفه المعوزين في الارض، ذلك لأن سكة الفطرة،
وختم الحكمة، وطغراء الصمدية، وختم الرحمة، الموجودة على جبين تلك التفاحة
الواحدة، موجودة كذلك على جبين تفاح الارض كلها وعلى سائر الاثمار والفواكه وعلى
النباتات والحيوانات جميعها. لذا فإن مالك تلك التفاحة الواحدة وصانعها الحقيقي هو
مالك وصانع أمثالها وأشباه جنسها من سكنة الأرض وهو مالك وصانع الأرض الضخمة التي
هي حديقتها، وهو بارئ شجرة الكائنات التي هي مصنعها. وهو موجد موسمها الذي هو
معملها وهو باعث الربيع والصيف اللذين هما ميدان تربيتها ونموها، ذلكم المالك
ذو الجلال والخالق ذو الجمال. لاشريك له ولا إله غيره.
فكل ثمرة إذاً
هي ختم رائع واضح للوحدة، بحيث يعرّف كاتب وصانع شجرتها وهي الأرض، ويعرّف كاتب
وخالق حديقتها وهي كتاب الكون، ويبرز وحدته سبحانه، ويشير إلى أن أمر الوحدانية قد
ختم باختام تصديق عديدة بعدد الاثمار.
ولكون (رسائل
النور) مظهراً لأسمي (الرحيم والحكيم) من الأسماء الحسنى ولبيان واثبات لمعات
كثيرة لحقيقة الرحيمية وأسرارها الغزيرة في عدة أجزاء من أجزاء رسائل النور، نحيل
اليها. وقد أكتفي بهذه الإشارة القصيرة الى تلك الخزينة الغنية الكبيرة نظراً
لحالتي غير الملائمة.
*
* *
وهكذا
فصاحبنا السائح يقول: الحمد لله! الذي وفقني لأسمع الحقائق الثلاث والثلاثين التي
تشهد على وجوب وجود خالقي ومالكي وعلى وحدته، والذي ظللت أبحث عنه في كل مكان
وأسأل عنه كل شيء. تلك الحقائق التي كل منها عبارة عن شمس مشرقة تبدد كل ظلام، وكل
منها بقوة الجبل الراسخ المستقر، وكل منها بتحقيقاتها تشهد في غاية القطعية على
وجوده سبحانه وتدل بإحاطتها في غاية الجلاء على وحدته، وتثبت خلالها سائر الأركان
الإيمانية إثباتاً قوياً. و إن إجماع مجموع الحقائق واتفاقها قد حولت إيماننا من
التقليد الى التحقيق، ومن التحقيق إلى علم اليقين، ومن علم اليقين إلى عين اليقين،
ومن عين اليقين إلى حق اليقين، فالحمد لله.. هذا من فضل ربي.
(الحمد لله الذي هَدانا لهذا وما كُنا لِنَهتَديَّ لولا أن هدانا
الله لقَدْ جاءت رُسُلُ رَبِّنا بالحق) (الاعراف:
43) .
هذا وقد جاءت
في الباب الثاني من المقام الأول إشارة قصيرة جداً إلى الإنوار الايمانية التي
اكتسبها هذا السائح الباحث المشتاق في مشاهداته في المنزل الثالث من الحقائق الأربعة
المعظمة:
[لا إله إلاّ الله الواحد الأحد الذي
دلّ على وحدته فـي وجوب وجوده: مشاهدة عظمة إحاطة حقيقة الفتاحية، بفتح
الصور لأربعمائة ألف نوع مـن ذوي الحياة المكملة بلا قصور، بشهادة فنِ النبات
والحيوان.. وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الرحمانية الواسعة المنتظمة بلا نقصان
بالمشاهدة والعيان.. وكذا مشاهدة عظمة حقيقة الادارة المحيطة لجميع ذوي الحياة
والمنتظمة بلا خطأ ولا نقصان.. وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الرحيمية والإعاشة
الشاملة لكل المرتزقين المقننة فـي كل وقت الحاجة بلاسهو ولا نسيان جل
جلاله رَزًَّقهَا الرحمنُ الرحيمُ الحنـان المنان وعَمَّ نوالهُ وشَمِلَ اِحسانه
ولا إله إلاّ هو].
(سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنَا إنك انت
العليم الحكيم)
*
* *
ياربّ ِ
بحق بسم الله الرحمن الرحيم. ياالله
يارحمن يارحيم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين بعدد جميع
حروف رسائل النور المضروبة تلك الحروف في عشرات دقائق جميع عمرنا في الدنيا
والآخرة مع ضرب مجموعها في ذرات وجودي في مدة حياتي واغفر لي ولمن يعينني في نشر
رسائل النور وكتابتها بصداقة بكل صلاة منها ولآبائنا ولساداتنا وشيوخنا ولإخواتنا واخواننا
ولطلبة رسالة النور الصادقين وبالخاصة لمن يكتب ويستنسخ هذه الرسالة برحمتك يا
ارحم الراحمين.. آمين.
(وآخر
دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)
*
* *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق