بسم
الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين
و
بعد،فهذه صفحات من مطلع كتاب "مفتاح دار السعادة..." لابن القيم رحمه الله و جازاه عنا أحسن جزاء، و كان من الممكن أن أختار صفحات من وسط الكتاب أو من خواتمه، أو من كتاب آخر.. كتاباته رحمه الله كلها جميلة... جميلة في مضمونها و في قالبها و بنائها و أسلوبها و جميلة في منهجها العلمي الرباني الذي يدور مع القرآن الكريم و الهدي النبوي الشريف، ويغرف من معين الرعيل الأول من أعلام الأمة من الصحابة و التابعين و من تبعهم بإحسان...و من جمالها أيضا أنها تلامس الجروح و تعالج آفات القلوب و تبدد الشبهات...
مقدمة الكاتب
الحمد
لله الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا و أوضح لهم طرق الهداية وجعل اتباع
الرسول عليها دليلا، واتخذهم عبيدا له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه
وكيلا، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه لما رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا
وبمحمد رسولا. والحمد لله الذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنن المرسلين
كفيلا، واختص هذه الأمة بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا
من خالفهم حتى يأتي أمره، ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلا. يدعون من ضل إلى
الهدى، ويصبرون منهم على الأذى. ويبصٌرون بنور الله أهل العمى، ويحيون بكتابه
الموتى. فهم أحسن الناس هديا وأقومهم قيلا، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال
جاهل لا يعلم طريق رشده قد هدوه، ومن مبتدع في دين الله بشهب الحق قد رموه، جهادا
في الله وابتغاء مرضاته وبيانا لحججه على العالمين وبيناته وطلبا للزلفى لديه ونيل
رضوانه وجناته. فحاربوا في الله من خرج عن دينه القويم وصراطه المستقيم، الذين
عقدوا ألوية البدعة وأطلعوا أعنة الفتنة وخالفوا الكتاب واختلفوا في الكتاب
واتفقوا على مفارقة الكتاب ونبذوه وراء ظهورهم وارتضوا غيره منه بديلا.
أحمده
وهو المحمود على كل ما قدره وقضاه، وأستعينه استعانة من يعلم أنه لا رب له غيره
ولا إله له سواه، وأستهديه سبل الذين أنعم عليهم ممن اختاره لقبول الحق وارتضاه،
وأشكره والشكر كفيل بالمزيد من عطاياه، وأستغفره من الذنوب التي تحول بين القلب
وهداه، وأعوذ بالله من شر نفسي وسيئات عملي استعاذة عبد فار الى ربه بذنوبه
وخطاياه واعتصم به من الأهواء المردية والبدع المضلة. فما خاب من أصبح به معتصما
وبحماه نزيلا. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، شهادة أشهد بها مع
الشاهدين وأتحملها عن الجاحدين وأدخرها عند الله عدة ليوم الدين، وأشهد أن الحلال
ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله
يبعث من في القبور.
وأشهد
أن محمدا عبده المصطفى ونبيه المرتضى ورسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى، أرسله رحمة للعالمين وحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، أرسله
على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد
طاعته وتعظيمه وتوفيره وتبجيله والقيام بحقوقه، و سد إليه جميع الطرق
فلم
يفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره ورفع له ذكره، وعلٌٌٌم به من الجهالة وبصٌر
به من العمى وأرشد به من الغي وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. فلم يزل
صلى الله عليه و سلم قائما بأمر الله لا يرده عنه رادٌ داعيا إلى الله لا يصده عنه
صاد إلى أن أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتآلفت القلوب بعد شتاتها، وسارت
دعوته سير الشمس في الأقطار وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار. فلما أكمل الله به
الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى من
كرامته والمحل الأرفع الأسنى من أعلى جناته، ففارق الأمة وقد تركها على المحجة
البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين. فصلى الله عليه وعلى آله
الطيبين الطاهرين صلاة دائمة بدوام السموات والأرضين مقيمة عليهم أبدا لا تروم
انتقالا عنهم ولا تحويلا .
حكمة الله في هبوط آدم من الجنة
أما
بعد فإن الله سبحانه لما أهبط آدم أبا البشر من الجنة لما له في ذلك من الحكم التي
تعجز العقول عن معرفتها والألسن عن صفتها، فكان إهباطه منها عين كماله ليعود إليها
على أحسن أحواله. فأراد سبحانه أن يذيقه وولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها
وأوصابها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة؛ فإن الضد يظهر
حسنه الضد، ولو تربٌوْا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها. وأيضا فإنه سبحانه أراد
أمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم وليست الجنة دار تكليف، فأهبطهم إلى الأرض
وعرضهم بذلك لأفضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الأمر والنهي. وأيضا فإنه سبحانه
أراد أن يتخذ منهم أنبياء ورسلا وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه، فخلى بينهم وبين أعدائه
وامتحنهم بهم، فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابه نالوا من محبته
و رضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك أصلا؛ فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة
والحب فيه والبغض فيه وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه عنده من أفضل الدرجات ؛ولم
يكن ينال هذا إلا على الوجه الذي قدره وقضاه من إهباطه إلى الأرض وجعل معيشته
ومعيشة أولاده فيها. وأيضا فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى فمن أسمائه الغفور
الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث الصبور.. ولا
بد من ظهور آثار هذه الأسماء فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته دارا يظهر
عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى فيغفر فيها لمن يشاء ويرحم من يشاء ويخفض من يشاء
ويرفع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وينتقم ممن يشاء ويعطي ويمنع ويبسط إلى
غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته.
وأيضا
فإنه سبحانه الملك الحق المبين والملك هو الذي يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويهين
ويكرم ويعز ويذل، فاقتضى ملكه سبحانه أن أنزل آدم وذريته دارا تجري عليهم فيها أحكام
الملك ثم ينقلهم إلى دار يتم عليهم فيها ذلك. وأيضا فإنه سبحانه أنزلهم إلى دار
يكون إيمانهم فيها بالغيب والإيمان بالغيب هو الإيمان النافع وأما الإيمان
بالشهادة فكل احد يؤمن يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إلا إيمانها في الدنيا؛ فلو
خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الإيمان بالغيب واللذة والكرامة الحاصلة بذلك
لا تحصل بدونه بل كان الحاصل لهم في دار النعيم لذة وكرامة غير هذه.
وأيضا
فإن الله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض والأرض فيها الطيب والخبيث
والسهل والحزن والكريم واللئيم، فعلم سبحانه أن في ظهره من لا يصلح لمساكنته في
داره فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه ثم ميزهم سبحانه بدارين
فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته في داره، وجعل الخبيث أهل دار الشقاء دار الخبثاء.
قال الله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض
فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون". فلما علم سبحانه أن في
ذريته من ليس بأهل لمجاورته أنزلهم دارا استخرج منها أولئك وألحقهم بالدار التي هم
لها أهل؛ حكمة بالغة ومشيئة نافذة ذلك تقدير العزيز العليم. وأيضا فإنه سبحانه لما
قال للملائكة :"إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" أجابهم بقوله" إني اعلم ما لا تعلمون"،
ثم أظهر سبحانه علمه لعباده ولملائكته بما جعله في الأرض من خواص خلقه ورسله
وأنبيائه وأوليائه ومن يتقرب إليه ويبذل نفسه في محبته ومرضاته مع مجاهدة شهوته
وهواه فيترك محبوباته تقربا إلي ويترك شهواته ابتغاء مرضاتي ويبذل دمه ونفسه في
محبتي وأخصه بعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء الليل وأطراف النهار، ويعبدني مع
معارضات الهوى والشهوة والنفس والعدو إذ تعبدوني أنتم من غير معارض يعارضكم ولا
شهوة تعتريكم ولا عدو أسلطه عليكم بل عبادتكم لي بمنزلة النفس لأحدهم ؛وأيضا فإني
أريد أن أظهر ما خفي عليكم من شأن عدوي ومحاربته لي وتكبره عن أمري وسعيه في خلاف
مرضاتي، وهذا وهذا كانا كامنين مستترين في أبي البشر وأبي الجن فأنزلهم دارا أظهر
فيها ما كان الله سبحانه منفردا بعلمه لا يعلمه سواه وظهرت حكمته وتم أمره وبدا
للملائكة من علمه ما لم يكونوا يعلمون. وأيضا فإنه سبحانه لما كان يحب الصابرين
ويحب المحسنين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب
الشاكرين، وكانت محبته أعلى أنواع الكرامات اقتضت حكمته أن أسكن آدم وبنيه دارا
يأتون فيها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته، فكان إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عليهم، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأيضا
فإنه سبحانه أراد أن يتخذ من آدم ذرية يواليهم ويودهم ويحبهم ويحبونه فمحبتهم له
هي غاية كمالهم .. ولم يمكن تحقيق هذه المرتبة السنية إلا بموافقة رضاه وإتباع أمره
وترك إرادات النفس وشهواتها التي يكرهها محبوبهم، فأنزلهم دارا أمرهم فيها ونهاهم
فقاموا بأمره ونهيه فنالوا درجة محبتهم له فأنالهم درجة حبه إياهم وهذا من تمام
حكمته وكمال رحمته وهو البر الرحيم. وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا
وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته أفضل درجاتهم، أعنى
العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا. وقد ثبت أن
الله سبحانه أرسل جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم يخيره بين أن يكون ملكا
نبيا أو عبدا نبيا، فنظر إلى جبريل كالمستشير له فأشار إليه أن تواضع، فقال بل أن أكون
عبدا نبيا، فذكره سبحانه باسم عبوديته في أشرف مقاماته في مقام الإسراء ومقام
الدعوة ومقام التحدي فقال في مقام الإسراء:" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا"
ولم يقل برسوله ولا نبيه إشارة إلى أنه قام هذا المقام الأعظم بكمال عبوديته لربه،
وقال في مقام الدعوة : "وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا
" وقال في مقام التحدي:" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من
مثله"، وفي الصحيحين في حديث الشفاعة وتراجع الأنبياء فيها وقول
المسيح صلى الله عليه و سلم: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر، فدل ذلك على أنه نال ذلك المقام الأعظم بكمال عبوديته لله وكمال
مغفرة الله له. وإذا كانت العبودية عند الله بهذه المنزلة اقتضت حكمته أن أسكن آدم
وذريته دارا ينالون فيها هذه الدرجة بكمال طاعتهم لله وتقربهم إليه بمحابه وترك
مألوفاتهم من أجله، فكان ذلك من تمام نعمته عليهم وإحسانه اليهم.
وأيضا
فإنه سبحانه أراد أن يعرف عباده الذين أنعم عليهم تمام نعمته عليهم وقدرها ليكونوا
أعظم محبة وأكثر شكرا وأعظم التذاذا بما أعطاهم من النعيم، فأراهم سبحانه فعله
بأعدائه وما أعد لهم من العذاب وأنواع الآلام وأشهدهم تخليصهم من ذلك وتخصيصهم
بأعلى أنواع النعيم ليزداد سرورهم وتكمل غبطتهم ويعظم فرحهم وتتم لذتهم، وكان ذلك
من إتمام الإنعام عليهم ومحبتهم؛ ولم يكن بد في ذلك من إنزالهم إلى الأرض
وامتحانهم واختبارهم وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلا وخذلان من شاء منهم حكمة
منه وعدلا، وهو العليم الحكيم. ..
وأيضا
فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته وهي الغاية منهم قال تعالى:" وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون"، ومعلوم أن كمال العبودية المطلوب من الخلق
لا يحصل في دار النعيم والبقاء إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء، وأما دار
البقاء فدار لذة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف.
وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والفتنة وداعي العقل والعلم فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مراده ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه. فاقتضت حكمته ورحمته أن أذاق أباهم وبيل مخالفته وعرفه ما يجنى عواقب إجابة الشهوة والهوى ليكون أعظم حذرا فيها وأشد هروبا ، وهذا كحال رجل سائر على طريق قد كمنت الأعداء في جنباته وخلفه وأمامه وهو لا يشعر فإذا أصيب منها مرة بمصيبة استعد في سيره وأخذ أهبة عدوه وأعد له ما يدفعه ولولا انه ذاق ألم إغارة عدوه عليه وتبييته له لما سمحت نفسه بالاستعداد والحذر وأخذ العدة؛ فمن تمام نعمة الله على آدم وذريته أن أراهم ما فعل العدو بهم فاستعدوا له وأخذوا أهبته. فإن قيل كان من الممكن أن لا يسلط عليهم العدو قيل قد تقدم انه سبحانه خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مستلزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم به ولو شاء لخلقهم كالملائكة الذين هم عقول بلا شهوات فلم يكن لعدوهم طريق إليهم، ولكن لو خلقوا هكذا لكانوا خلقا آخر غير بني آدم، فإن بنى آدم قد ركبوا على العقل والشهوة.
وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والفتنة وداعي العقل والعلم فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مراده ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه. فاقتضت حكمته ورحمته أن أذاق أباهم وبيل مخالفته وعرفه ما يجنى عواقب إجابة الشهوة والهوى ليكون أعظم حذرا فيها وأشد هروبا ، وهذا كحال رجل سائر على طريق قد كمنت الأعداء في جنباته وخلفه وأمامه وهو لا يشعر فإذا أصيب منها مرة بمصيبة استعد في سيره وأخذ أهبة عدوه وأعد له ما يدفعه ولولا انه ذاق ألم إغارة عدوه عليه وتبييته له لما سمحت نفسه بالاستعداد والحذر وأخذ العدة؛ فمن تمام نعمة الله على آدم وذريته أن أراهم ما فعل العدو بهم فاستعدوا له وأخذوا أهبته. فإن قيل كان من الممكن أن لا يسلط عليهم العدو قيل قد تقدم انه سبحانه خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مستلزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم به ولو شاء لخلقهم كالملائكة الذين هم عقول بلا شهوات فلم يكن لعدوهم طريق إليهم، ولكن لو خلقوا هكذا لكانوا خلقا آخر غير بني آدم، فإن بنى آدم قد ركبوا على العقل والشهوة.
وأيضا
فإنه لما كانت محبة الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا
سعادة بدونها أصلا، وكانت المحبة الصادقة إنما تتحقق بإيثار المحبوب على غيره من
محبوبات النفوس واحتمال أعظم المشاق في طاعته ومرضاته، فبهذا تتحقق المحبة ويعلم
ثبوتها في القلب، اقتضت حكمته سبحانه إخراجهم إلى هذه الدار المحفوفة بالشهوات
ومحاب النفوس التي بإيثار الحق عليها والإعراض عنها يتحقق حبهم له وإيثارهم إياه
على غيره، ولذلك يتحمل المشاق الشديدة وركوب الأخطار. واحتمال الملامة والصبر على
دواعي الغي والضلال ومجاهدتها يقوى سلطان المحبة وتثبت شجرتها في القلب وتطعم
ثمرتها على الجوارح، فإن المحبة الثابتة اللازمة على كثرة الموانع والعوارض
والصوارف هي المحبة الحقيقية النافعة وأما المحبة المشروطة بالعافية والنعيم واللذة
وحصول مراد المحب من محبوبه فليست محبة صادقة ولا ثبات لها عند المعارضات والموانع؛
فإن المعلق على الشرط عدم عند عدمه، ومن ودٌك لأمر ولٌى عند انقضائه؛ وفرق بين
من يعبد الله على السراء والرخاء والعافية فقط ، وبين من يعبده على السراء والضراء
والشدة والرخاء والعافية والبلاء.
وأيضا فإن الله سبحانه له الحمد المطلق الكامل الذي لا نهاية بعده، وكان ظهور الأسباب التي يحمد عليها من مقتضى كونه محمودا وهي من لوازم حمده تعالى. وهي نوعان: فضل وعدل ، إذ هو سبحانه المحمود على هذا وعلى هذا، فلا بد من ظهور أسباب العدل واقتضائها لمسمياتها ليترتب عليها كمال الحمد الذي هو أهله؛ فكما أنه سبحانه محمود على إحسانه وبره وفضله وثوابه فهو محمود على عدله وانتقامه وعقابه إذ يصدر ذلك كله عن عزته وحكمته . ولهذا نبه سبحانه على هذا كثيرا كما في سورة الشعراء حيث يذكر في آخر كل قصة من قصص الرسل وأممهم: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" ، فأخبر سبحانه أن ذلك صادر عن عزته المتضمنة كمال قدرته وحكمته المتضمنة كمال علمه ووضعه الأشياء مواضعها اللائقة بها، ما وضع نعمته ونجاته لرسله ولأتباعهم ونقمته وإهلاكه لأعدائهم إلا في محلها اللائق بها لكمال عزته وحكمته. ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن قضائه بين أهل السعادة والشقاوة ومصير كل منهم إلى ديارهم التي لا يليق بهم غيرها ولا تقتضى حكمته سواها : "وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين".
وأيضا فإن الله سبحانه له الحمد المطلق الكامل الذي لا نهاية بعده، وكان ظهور الأسباب التي يحمد عليها من مقتضى كونه محمودا وهي من لوازم حمده تعالى. وهي نوعان: فضل وعدل ، إذ هو سبحانه المحمود على هذا وعلى هذا، فلا بد من ظهور أسباب العدل واقتضائها لمسمياتها ليترتب عليها كمال الحمد الذي هو أهله؛ فكما أنه سبحانه محمود على إحسانه وبره وفضله وثوابه فهو محمود على عدله وانتقامه وعقابه إذ يصدر ذلك كله عن عزته وحكمته . ولهذا نبه سبحانه على هذا كثيرا كما في سورة الشعراء حيث يذكر في آخر كل قصة من قصص الرسل وأممهم: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم" ، فأخبر سبحانه أن ذلك صادر عن عزته المتضمنة كمال قدرته وحكمته المتضمنة كمال علمه ووضعه الأشياء مواضعها اللائقة بها، ما وضع نعمته ونجاته لرسله ولأتباعهم ونقمته وإهلاكه لأعدائهم إلا في محلها اللائق بها لكمال عزته وحكمته. ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن قضائه بين أهل السعادة والشقاوة ومصير كل منهم إلى ديارهم التي لا يليق بهم غيرها ولا تقتضى حكمته سواها : "وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين".
وأيضا
فإنه سبحانه اقتضت حكمته وحمده أن فاوت بين عباده أعظم تفاوت وأبينه ليشكره منهم من
ظهرت عليه نعمته وفضله ويعرف أنه قد حبي بالإنعام
وخص دون غيره بالإكرام. ولو تساووا جميعهم في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة
قدرها ولم يبذل شكرها إذ لا يرى أحدا إلا في مثل حاله. ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها
استخرجا له من العبد أن يرى غيره في ضد حاله الذي هو عليها من لإكمال والفلاح؛ وفي
الأثر المشهور أن الله سبحانه لما أرى آدم ذريته وتفاوت مراتبهم قال يا رب هلا
سويت بين عبادك قال: إني أحب أن أشكر فاقتضت محبته سبحانه لأن يشكر خلق الأسباب
التي يكون شكر الشاكرين عندها أعظم وأكمل؛ وهذا هو عين الحكمة الصادرة عن صفة
الحمد. وأيضا فإنه سبحانه لا شيء أحب إليه من العبد من تذلـله بين يديه وخضوعه وإفتقاره وإنكساره وتضرعه إليه.
ومعلوم أن هذا المطلوب من العبد إنما يتم بأسبابه التي تتوقف عليها وحصول هذه الأسباب
في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة يمتنع إذ هو مستلزم للجمع بين الضدين.
وأيضا
فإنه سبحانه له الخلق والأمر والأمر هو شرعه وأمره ودينه الذي بعث به رسله
وأنزل به كتبه، وليست الجنة دار تكليف تجرى عليهم فيها أحكام التكليف ولوازمها
وإنما هي دار نعيم ولذة. واقتضت حكمته سبحانه استخراج آدم وذريته إلى دار تجرى
عليهم فيها أحكام دينه وأمره ليظهر فيهم مقتضى الأمر ولوازمه. فإن الله سبحانه كما
أن أفعاله وخلقه من لوازم كمال أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فكذلك أمره وشرعه وما
يترتب عليه من الثواب والعقاب. وقد أرشد سبحانه إلى هذا المعنى في غير موضع من
كتابه، فقال تعالى: " أيحسب الانسان أن يترك سدى" أي مهملا معطلا
لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وهذا يدل على أن هذا مناف لكمال حكمته، وأن
ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك، ولهذا أخرج الكلام مخرج الإنكار على من زعم ذلك.
وهو يدل على أن حسنه مستقر في الفطر والعقول، وقبح تركه سدا معطلا أيضا مستقر في
الفطر، فكيف ينسب الى الرب ما قبحه مستقر في فطركم وعقولكم. وقال تعالى: " أفحسبتم أنما
خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله الا هو رب
العرش الكريم". نزه نفسه سبحانه عن هذا الحسبان الباطل المضاد
لموجب أسمائه وصفاته وأنه لا يليق بجلاله نسبته اليه ونظائر هذا في القرآن كثيرة..
وأيضا
فإنه سبحانه يحب من عباده أمورا يتوقف حصولها منهم على حصول الأسباب المقتضية لها
ولا تحصل إلا في دار الابتلاء والامتحان. فإنه سبحانه يحب الصابرين ويحب الشاكرين
ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ولا ريب أن حصول هذه
المحبوبات بدون أسبابها ممتنع كامتناع حصول الملزوم بدون لازمه. والله سبحانه أفرح
بتوبة عبده حين يتوب اليه من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في أرض دوية
مهلكة إذا وجدها كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "
لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في
أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى
أدركه العطش ثم قال أرجع الى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على
ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة
العبد المؤمن من هذا براحلته". وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث
وذكر سر هذا الفرح بتوبة العبد، والمقصود أن هذا الفرح المذكور إنما يكون بعد
التوبة من الذنب فالتوبة والذنب لازمان لهذا الفرح ولا يوجد الملزوم بدون لازمه،
وإذا كان هذا الفرح المذكور إنما يحصل بالتوبة المستلزمة للذنب فحصوله في دار
النعيم التي لا ذنب فيها ولا مخالفة ممتنع،ولما كان هذا الفرح أحب الى الرب سبحانه
من عدمه اقتضت محبته له خلق الأسباب المفضية إليه ليترتب عليها المسبب الذي هو
محبوب له وأيضا. فإن الله سبحانه جعل الجنة دار جزاء وثواب وقسم منازلها بين أهلها
على قدر أعمالهم، وعلى هذا خلقها سبحانه لما له في ذلك من الحكمة التي اقتضتها أسماؤه
وصفاته. فإن الجنة درجات بعضها فوق بعض وبين الدرجتين كما بين السماء والارض، كما
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: " إن الجنة مائة درجة بين
كل درجتين كما بين السماء والارض". وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه
الدرجات كلها وإنما تعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الأعمال كما قال غير واحد من السلف،
ينجون من النار بعفو الله ومغفرته ويدخلون الجنة بفضله ونعمته ومغفرته ويتقاسمون
المنازل بأعمالهم. وعلى هذا حمل غير واحد ما جاء من إثبات دخول الجنة بالأعمال
كقوله تعالى: " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" وقوله تعالى:
" ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون". قالوا وأما نفي دخلوها بالأعمال كما
في قوله صلى الله عليه و سلم: " لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا ولا أنت يا
رسول الله قال ولا أنا"، فالمراد به نفي أصل الدخول؛ وأحسن من هذا أن يقال
الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نفى معها الدخول، فالمقتضية هي باء السببية
الدالة على أن الأعمال سبب للدخول مقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها،
والباء التي نفى بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم اشتريت
هذا بهذا، فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد
وأنه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة فليس عمل العبد وإن
تناهى موجبا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضا لها، فإن أعماله وإن وقعت منه على الوجه
الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا
ولا تعادلها بل لو حاسبه لوقعت أعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية
النعم مقتضية لشكرها. فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له ولو رحمه
لكانت رحمته خيرا له من عمله، كما في السنن من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما
مرفوعا الى النبي صلى الله عليه و سلم انه قال: " إن الله لو عذب أهل سمواته
وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم".
والمقصود أن حكمته سبحانه اقتضت خلق الجنة درجات بعضها فوق بعض وعمارتها بآدم
وذريته وإنزالهم فيها بحسب أعمالهم ولازم هذا إنزالهم الى دار العمل والمجاهدة.
وأيضا
فإنه سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الارض كما اخبر سبحانه في كتابه بقوله:
" إني جاعل في الارض خليفة" وقوله:" وهو الذي جعلكم خلائف الارض"
وقال:" ويستخلفكم في الارض"، فأراد سبحانه أن ينقله وذريته من هذا
الاستخلاف الى توريثه جنة الخلد، وعلم سبحانه بسابق علمه أنه لضعفه وقصور نظره قد
يختار العاجل الخسيس على الآجل النفيس ،فإن النفس مولعة بحب العاجلة وإيثارها على
الآخرة وهذا من لوازم كونه خلق من عجل وكونه خلق عجولا؛ فعلم سبحانه ما في طبيعته
من الضعف والخور فاقتضت حكمته أن أدخله الجنة ليعرف النعيم الذي أعد له عيانا فيكون
إليه أشوق وعليه أحرص وله أشد طلبا، فإن محبة الشيء وطلبه والشوق إليه من لوازم
تصوره؛ فمن باشر طيب شيء ولذته وتذوق به لم يكد يصبر عنه وهذا لأن النفس ذواقة
تواقة، فإذا ذاقت تاقت؛ ولهذا إذا ذاق العبد طعم حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته قلبه
رسخ فيه حبه ولم يؤثر عليه شيئا أبدا ؛وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضى الله عنه
المرفوع أن الله عز و جل يسأل الملائكة فيقول" ما يسألني عبادي؟ فيقولون
يسألونك الجنة، فيقول وهل رأوها؟ فيقولون لا يا رب، فيقول كيف لو رأوها؟ فيقولون
لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا. فاقتضت حكمته أن أراها أباهم وأسكنه إياها ثم
قص على بنيه قصته فصاروا كأنهم مشاهدون لها حاضرون مع أبيهم، فاستجاب من خلق لها
وخلقت له وسارع إليها فلم يثنه عنها العاجلة بل يعد نفسه كأنه فيها ثم سباه العدو
فيراها وطنه الأول فهو دائم الحنين إلى وطنه ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه كما
قيل :
نقل
فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم
منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
ولي
من أبيات تلم بهذا المعنى :
وحي
على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا
سبي العدو فهل ترى ... نعود الى أوطاننا ونسلم
فسر
هذه الوجوه أنه سبحانه وتعالى سبق في حكمه وحكمته أن الغايات المطلوبة لا تنال إلا
بأسبابها التي جعلها الله أسبابا مفضية إليها. ومن تلك الغايات أعلى أنواع النعيم
وأفضلها وأجلها فلا تنال إلا بأسباب نصبها مفضية إليها. وإذا كانت الغايات التي هي
دون ذلك لا تنال إلا بأسبابها مع ضعفها وانقطاعها كتحصيل المأكول والمشروب
والملبوس والولد والمال والجاه في الدنيا، فكيف يتوهم حصول أعلى الغايات وأشرف
المقامات بلا سبب يفضي اليه؟ ولم يكن تحصيل تلك الأسباب إلا في دار المجاهدة
والحرث؛ فكان إسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الأسباب الموصلة إلى
أعلى المقامات من إتمام إنعامه عليهم. وسرها أيضا أنه سبحانه جعل الرسالة والنبوة
والخلة والتكليم والولاية والعبودية من أشرف مقامات خلقه ونهايات كمالهم، فأنزلهم
دارا أخرج منهم الأنبياء وبعث فيها الرسل واتخذ منهم من اتخذ خليلا وكلم موسى
تكليما، واتخذ منهم أولياء وشهداء وعبيدا وخاصة يحبهم ويحبونه وكان إنزالهم الى
الارض من تمام الإنعام والإحسان.
وأيضا
إنه أظهر لخلقه من آثار أسمائه وجريان أحكامها عليهم ما اقتضته حكمته ورحمته وعلمه
وسرها أيضا أنه تعرف إلى خلقه بأفعاله وأسمائه وصفاته وما أحدثه في أوليائه
وأعدائه من كرامته وإنعامه على الأولياء وإهانته وإشقائه للأعداء، ومن إجابته
دعواتهم وقضائه حوائجهم وتفريج كرباتهم وكشف بلائهم وتصريفهم تحت أقداره كيف يشاء
وتقليبهم في أنواع الخير والشر؛ فكان في ذلك أعظم دليل لهم على أنه ربهم ومليكهم وأنه
الله الذي لا إله الا هو وأنه العليم الحكيم السميع البصير، وأنه الإله الحق وكل
ما سواه باطل؛ فتظاهرت أدلة ربوبيته وتوحيده في الأرض وتنوعت وقامت من كل جانب،
فعرفه الموفقون من عباده وأقروا بتوحيده إيمانا وإذعانا، وجحده المخذولون من
خليقته وأشركوا به ظلما وكفرانا، فهلك من هلك عن بينة وحيي من حيي عن بينة والله
سميع عليم. ومن تأمل آياته المشهودة والمسموعة في الارض ورأى آثارها علم تمام
حكمته في إسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم. فالله سبحانه إنما خلق
الجنة لآدم وذريته وجعل الملائكة فيها خدما لهم. ولكن اقتضت حكمته أن خلق لهم دارا
يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم، وأنهم لا ينالونها إلا بالزاد، كما قال
تعالى في هذه الدار:" وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن
ربكم لرؤوف رحيم". فهذا شأن الإنتقال في الدنيا من بلد الى بلد فكيف الإنتقال
من الدنيا إلى دار القرار؛ وقال تعالى: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
فباع المغبونون منازلهم منها بأبخس الحظ وأنقص الثمن وباع الموفقون نفوسهم وأموالهم
من الله وجعلوها ثمنا للجنة، فربحت تجارتهم ونالوا الفوز العظيم. قال الله تعالى:
" إن
الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"، فهو سبحانه
ما أخرج آدم منها إلا وهو يريد أن يعيده إليها أكمل إعادة، كما قيل على لسان القدر:
يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها فإني انا الغني عنها وعن كل شيء
وانا الجواد الكريم وانا لا اتمتع فيها فإني أطعم ولا أطعم وأنا الغني الحميد،
ولكن انزل إلى دار البذر فإذا بذرت فاستوى الزرع على سوقه وصار حصيدا فحينئذ فتعال
فاستوفه أحوج ما أنت إليه، الحبة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة،
فإني أعلم بمصلحتك منك وأنا العلي الحكيم..
العهد
الإلهي
فصل
ولما اهبطه سبحانه من الجنة وعرضه وذريته لأنواع المحن والبلاء أعطاهم أفضل مما
منعهم وهوعهده الذي عهد إليه وإلى بنيه وأخبر أنه من تمسك به منهم صار إلى رضوانه
ودار كرامته. قال تعالى عقب إخراجه منها:" قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم
مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وفي
الآية الاخرى قال:" اهبطا منها جميعا فإما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل
ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم
حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى".
فلما كسره سبحانه بإهباطه من الجنة جبره وذريته بهذا العهد الذي عهده إليهم، فقال
تعالى فإما يأتينكم مني هدى وهذه هي إن الشرطية المؤكدة بما الدالة على استغراق
الزمان، والمعنى أي وقت وأي حين أتاكم من يهدي، وجعل جواب هذا الشرط جملة شرطية
وهي قوله فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى كما تقول إن زرتني فمن بشرني فهو حر.
والمقصود
أن الله سبحانه جعل إتباع هداه وعهده الذي عهده إلى آدم سببا ومقتضيا لعدم
الخوف والحزن والضلال والشقاء وهذا الجزاء ثابت بثبوت الشرط منتف بانتفائه كما
تقدم بيانه. ونفى الخوف والحزن عن متبع الهدى نفي لجميع أنواع الشرور، فإن المكروه
الذي ينزل بالعبد متى علم بحصوله فهو خائف منه أن يقع به وإذا وقع به فهو حزين على
ما أصابه منه، فهو دائما في خوف وحزن وكل خائف حزين و كل حزين خائف، وكل من الخوف
والحزن يكون على فعل المحبوب وحصول المكروه: فالأقسام أربعة خوف من فوت المحبوب
وحصول المكروه وهذا جماع الشر كله، فنفى الله سبحانه ذلك عن متبع هداه الذي أنزله
على ألسنة رسله. وأتى في نفي الخوف بالإسم الدال على نفي الثبوت واللزوم، فإن أهل
الجنة لا بد لهم من الخوف في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة حيث يقول آدم وغيره
من الأنبياء نفسي نفسي.. فأخبر سبحانه أنهم وإن خافوا فلا خوف عليهم أي لا
يلحقهم الخوف الذي خافوا منه.. وأتى في نفي الحزن بالفعل المضارع الدال على
نفي التجدد والحدوث أي لا يلحقهم حزن ولا يحدث لهم إذا لم يذكروا ما سلف منهم، بل
هم في سرور دائم لا يعرض لهم حزن على ما فات وأما الخوف فلما كان تعلقه بالمستقبل
دون الماضي نفي لحوقه لهم جملة أي الذي خافوا منه لا ينالهم ولا يلم بهم. والله أعلم.
فالحزين إنما يحزن في المستقبل على ما مضى
والخائف إنما يخاف في الحال مما يستقبل، فلا خوف عليهم أي لا يلحقهم ما خافوا منه
ولا يعرض لهم حزن على ما فات. وقال في الآية الأخرى: " فمن اتبع هداي فلا يضل
ولا يشقى فنفى عن متبع هداه أمرين الضلال والشقاء"؛ قال عبد الله بن عباس رضى
الله عنهما: كفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا
يشقى في الاخرة، ثم قرأ:" فأما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا
يشقى"؛ والآية نفت مسمى الضلال والشقاء عن متبع الهدى مطلقا، فاقتضت الآية أنه
لا يضل في الدنيا ولا يشقى فيها، ولا يضل في الاخرة ولا يشقى فيها. فإن المراتب
أربعة هدى وشقاوة في الدنيا وهدى وشقاوة في الآخرة، لكن ذكر ابن عباس رضى الله
عنهما في كل دار أظهر مرتبتيها فذكر الضلال في الدنيا إذ هو أظهر لنا وأقرب من ذكر
الضلال في الآخرة وأيضا فضلال الدنيا أضل ضلال في الآخرة وشقاء الآخرة مستلزم
للضلال فيها، فنبه بكل مرتبة على الأخرى، فنبه بنفي ضلال الدنيا على نفي ضلال الآخرة
فإن العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه. قال الله تعالى في
الآية الأخرى:" ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم
تنسى" وقال في الآية الاخرى:" ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضل سبيلا" فأخبر أن من كان في هذه الدار ضالا فهو في الآخرة أضل.
وأما نفي شقاء الدنيا فقد يقال إنه لما انتفى عنه الضلال فيها وحصل له الهدى،
والهدى فيه من برد اليقين وطمأنينة القلب، وذاق طعم الإيمان فوجد حلاوته وفرحة
القلب به وسروره والتنعيم به، ومصير القلب حيا بالإيمان مستنيرا به قويا به قد نال
به غذاؤه ورواءه وشفاءه وحياته ونوره وقوته ولذته ونعيمه ما هو من أجل أنواع
النعيم وأطيب الطيبات وأعظم اللذات. قال الله تعالى:" من عمل صالحا من
ذكر او أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "
فهذا خبر أصدق الصادقين ومخبره عند أهله عين اليقين بل هو حق اليقين.
هنا
ولا
بد لكل من عمل صالحا أن يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله، ولكن يغلط الجفاة
الأجلاف في مسمى الحياة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس
والمناكح أو لذة الرياسة والمال وقهر الأعداء والتفنن بأنواع الشهوات؛ ولا ريب أن
هذه لذة مشتركة بين البهائم بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ
الانسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والانعام
فذلك ممن ينادى عليه من مكان بعيد. ولكن أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط
بشاشته القلوب سلى عن الأبناء والنساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكن، ورضى
بتركها كلها والخروج منها رأسا وعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، وهو متحلٌ بهذا
منشرح الصدر به يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه لا تأخذه في ذلك لومة لائم. حتى
أن أحدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول فزت ورب الكعبة.. ويستطيل الآخر حياته حتى يلقى
قوته من يده ويقول إنها لحياة طويلة إن صبرت حتى آكلها ثم يتقدم إلى الموت فرحا
مسرورا، ويقول الآخر مع فقره لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا
عليه بالسيوف، ويقول الآخر إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا. وقال بعض
العارفين إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش
طيب..
ومن
تأمل قول النبي صلى الله عليه و سلم لما نهاهم عن الوصال [في الصوم] فقالوا إنك
تواصل فقال:" إني لست كهيئتكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" علم أن
هذا طعام الأرواح وشرابها وما يفيض عليها من أنواع البهجة واللذة والسرور والنعيم
الذي رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذروة العليا منه، وغيره إذا تعلق بغباره رأى
ملك الدنيا ونعيمها بالنسبة إليه هباء منثورا بل باطلا وغرورا؛ وغلط من قال إنه
كان يأكل ويشرب طعاما وشرابا يغتذى به بدنه لوجوه أحدها أنه قال أظل عند ربي يطعمني
ويسقيني ولو كان أكلا وشربا لم يكن وصالا ولا صوما...
الثاني
أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرهم أنهم ليسوا كهيئته في الوصال؛ فإنهم إذا
واصلوا تضرروا بذلك وأما هو صلى الله عليه و سلم فإنه إذا واصل لا يتضرر بالوصال.
فلو كان يأكل ويشرب لكان الجواب وأنا ايضا لا أواصل بل آكل وأشرب كما تأكلون
وتشربون، فلما قررهم على قولهم إنك تواصل ولم ينكره عليهم دل على أنه كان مواصلا وأنه
لم يكن يأكل أكلا وشربا يفطر الصائم.
الثالث أنه لو كان أكلا وشربا يفطر الصائم لم
يصح الجواب بالفارق بينهم وبينه، فإنه حينئذ يكون صلى الله عليه و سلم هو وهم
مشتركون في عدم الوصال، فكيف يصح الجواب بقوله لست كهيئتكم؟ وهذا أمر يعلمه غالب
الناس أن القلب متى حصل له ما يفرحه ويسره من نيل مطلوبه ووصال حبيبه أو ما يغمه
ويسؤوه ويحزنه شغل عن الطعام والشراب حتى أن كثيرا من العشاق تمر به الأيام لا
يأكل شيئا ولا تطلب نفسه أكلا وقد أفصح القائل في هذا المعنى :
لها
أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها
بوجهك نور تستضيء به ... ومن حديثك في أعقابها حادى
إذا
اشتكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
والمقصود
أن الهدى مستلزم لسعادة الدنيا وطيب الحياة والنعيم العاجل وهو أمر يشهد به الحس
والوجد. وأما سعادة الآخرة فغيب يعلم بالإيمان فذكرها ابن عباس رضى الله عنهما
لكونها أهم وهي الغاية المطلوبة، وضلال الدنيا أظهر وبالنجاة منه ينجو من كل شر
وهو أضل ضلال الاخرة وشقائها فلذلك ذكره وحده. والله اعلم..
فصل
وهذان الضلالان أعني الضلال والشقاء يذكرهما سبحانه كثيرا في
كلامه
ويخبر أنهما حظ أعدائه ويذكر ضدهما وهما الهدى والفلاح كثيرا ويخبر أنهما
حظ أوليائه. أما الأول فكقوله تعالى: " إن المجرمين في ضلال وسعر"
فالضلال الضلال والسعر هو الشقاء والعذاب،وقال تعالى: " قد خسر الذين كذبوا
بلقاء الله وما كانوا مهتدين". وأما الثاني فكقوله تعالى في أول البقرة وقد
ذكر المؤمنين وصفاتهم: " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"،
وكذلك في أول لقمان وقال في الأنعام: " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"، ولما كانت سورة أم القرآن أعظم سورة في القرآن
وأفرضها قراءة على الأمة وأجمعها لكل ما يحتاج اليه العبد وأعمها نفعا، ذكر فيها
الأمرين: فأمرنا أن نقول: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم"
فذكر الهداية والنعمة وهما الهدى والفلاح ثم قال: " غير
المغضوب عليهم ولا الضالين" فذكر المغضوب عليهم وهم أهل الشقاء والضالين وهم
أهل الضلال وكل من الطائفتين له الضلال والشقاء لكن ذكر الوصفين معا لتكون الدلالة
على كل منهما بصريح لفظه؛ وأيضا فإنه ذكر ماهو أظهر الوصفين في كل طائفة فإن الغضب
على اليهود أظهر لعنادهم الحق بعد معرفته والضلال في النصارى أظهر لغلبة الجهل
فيهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى
ضالون..
فصل
وقوله تعالى: " فإما ياتينكم مني هدى" هو خطاب لمن أهبطه من الجنة بقوله:
" اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو" ثم قال: " فإما يأتينكم مني
هدى"، وكلا الخطابين لأبوي الثقلين وهو دليل على أن الجن مأمورون منهيون
داخلون تحت شرائع الأنبياء، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة وأن نبينا بعث اليهم
كما بعث إلى الإنس، كما لا خلاف بينها أن مسيئهم مستحق للعقاب وإنما اختلف علماء
الإسلام في المسلم منهم هل يدخل الجنة؟ فالجمهور على أن محسنهم في الجنة كما ان
مسيئهم في النار...
فصل
ومتابعة هدى الله التي رتب عليها هذه الامور هي تصديق خبره من غير اعتراض شبهة
تقدح في تصديقه، وامتثال أمره من غير اعتراض شهوة تمنع امتثاله وعلى هذين الأصلين
مدار الإيمان: وهما تصديق الخبر وطاعة الأمر ويتبعهما أمران آخران وهما نفي شبهات
الباطل الواردة عليه المانعة من كمال التصديق وأن لا يخمش بها وجه تصديقه ودفع
شهوات الغي الواردة عليه المانعة من كمال الإمتثال. فهنا أربعة امور أحدها تصديق الخبر الثاني بذل
الاجتهاد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضته الثالث طاعة الأمر والرابع مجاهدة
النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة
وهذان
الأمران أعني الشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده كما ان
الأصلين الأولين وهما تصديق الخبر وطاعة الامر أصل سعادته وفلاحه في معاشه ومعاده؛
وذلك أن العبد له قوتان قوة الإدراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام
وقوة الإرادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل، فالشبهة تؤثر فسادا في
القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها، والشهوة تؤثر فسادا في القوة الإرادية
العملية ما لم يداوها بإخراجها. قال الله تعالى في حق
نبيه يذكر ما من به عليه من نزاهته وطهارته مما يلحق غيره من ذلك:" والنجم إذا هوى
ما ضل صاحبكم وما غوى " فما ضل دليل على كمال علمه ومعرفته وأنه
على الحق المبين وما غوى دليل على كمال رشده وأنه أبر العالمين فهو الكامل في علمه
وفي عمله وقد وصف صلى الله عليه و سلم بذلك خلفاءه من بعده وأمر باتباعهم على
سنتهم فقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي رواه الترمذي
وغيره فالراشد ضد الغاوي والمهدي ضد الضال وقد قال تعالى:" كالذين من قبلكم
كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما
استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا
والآخرة وأولئك هم الخاسرون " فذكر تعالى الأصلين وهما دار الأولين
والآخرين أحدهما الاستمتاع بالخلاق وهو النصيب من الدنيا والاستمتاع به متضمن لنيل
الشهوات المانعة من متابعة الأمر بخلاف المؤمن فإنه وإن نال من الدنيا وشهواتها
فإنه لا يستمتع بنصيبه كله ولا يذهب طيباته في حياته الدنيا بل ينال منها ما ينال
منها ليتقوى به على التزود لمعاده
والثاني
الخوض بالشبهات الباطلة وهو قوله:" وخضتم كالذي خاضوا" وهذا
شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق للآخرة لاتزال ساعية في نيل شهواتها فإذا نالتها
فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجدي عليها إلا الضرر العاجل والآجل. ومن تمام
حكمة الله تعالى أنه يبتلى هذه النفوس بالشقاء والتعب في تحصيل مراداتها وشهواتها
فلا تتفرغ للخوض بالباطل إلا قليلا ولو تفرغت هذه النفوس الباطولية لكانت أئمة
تدعوا إلى النار وهذا حال من تفرغ منها كما هومشاهد بالعيان
..
وسواء
كان المعنى وخضتم كالحزب الذي خاضوا أو كالفريق الذي خاضوا فإن (الذي) يكون للواحد
والجمع، ونظيره قوله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون لهم ما
يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين" لكن لا يجرى على جمع تصحيح فلا
يجيء المسلمون الذي جاؤوا وإنا يجيء غالبا في اسم الجمع كالحزب والفريق أو حيث لا
يذكر الموصوف وإن كان جمعا كقول الشاعر:
وإن
الذي جاءت تقبح دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
أو
حيث يراد الجنس دون الواحد والعدد كقوله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به"
ثم قال " اولئك هم المتقون" ونظيره الآية التي نحن منها وهي قوله:
" وخضتم كالذي خاضوا" أو كان المعنى على القول الآخر وخضتم خوضا كالخوض
الذي خاضوا فيكون صفة لمصدر محذوف كقولك اضرب كالذي ضرب وأحسن كالذي أحسن ونظائره،
وعلى هذا فيكون العائد منصوبا محذوفا وحذفه في مثل ذلك قياس مطرد على القولين ؛ فقد
ذمه سبحانه على الخوض بالباطل واتباع الشهوات وأخبر أن من كانت هذه حالته فقد حبط
عمله في الدنيا والآخرة وهو من الخاسرين. ونظير هذا قول أهل النار لأهل الجنة وقد
سألوهم كيف دخلوها: " قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع
الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين" فذكروا الأصلين الخوض بالباطل
وما يتبعه من التكذيب بيوم الدين وايثار الشهوات وما يستلزمه من ترك الصلوات
واطعام ذوي الحاجات فهذان الأصلان هما ما هما والله ولي التوفيق ..
القلب
السليم
فصل
والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله هو القلب الذي قد سلم من هذا وهذا فهو القلب
الذي قد سلم لربه وسلم لأمره ولم تبق فيه منازعة لأمره ولا معارضة لخبره، فهو سليم
مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله ولا يفعل إلا ما أمره الله.. فالله وحده
غايته وأمره وشرعه وسيلته وطريقته لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره لكن
لا تمر عليه إلا وهي مجتازة تعلم انه لا قرار لها فيه ولا شهوة تحول بينه وبين
متابعة رضاه ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك وسليم من البدع وسليم من
الغي وسليم من الباطل. وكل الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها. وحقيقته أنه
القلب الذي قد سلم لعبودية ربه حياء وخوفا وطمعا ورجاء ففن] بحبه عن حب ما سواه
وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وسلم لأمره ولرسوله تصديقا وطاعة
كما تقدم واستسلم لقضائه وقدره فلم يتهمه ولم ينازعه ولم يتسخط لأقداره، فأسلم
لربه انقيادا وخضوعا وذلا وعبودية وسلم جميع أحواله وأقواله وأعماله وأذواقه
ومواجيده ظاهرا وباطنا من مشكاة رسوله، وعرض ما جاء من سواها عليها فما وافقها
قبله وما خالفها رده، وما لم يتبين له فيه موافقة ولا مخالفة وقف أمره وأرجأه إلى أن
يتبين له؛ وسالم أولياءه وحزبه المفلحين الذابين عن دينه وسنة نبيه القائمين بها
وعادى أعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه الخارجين عنهما الداعين إلى خلافهما ..
التلاوة
/المتابعة
فصل
وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها في قوله تعالى:" إن الذين يتلون
كتاب الله" وفي قوله:" إن الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق
تلاوته أولئك يؤمنون به" والمعنى يتبعون كتاب الله حق اتباعه
وقال تعالى:" وقال إنما أمرت ان اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء
وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلوا القرآن" فحقيقة التلاوة
في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة وهي تلاوة اللفظ والمعنى: فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي
الاتباع يقال اتل أثر فلان وتلوت اثره وقفوته وقصصته بمعنى تبعت خلفه
ومنه قوله تعالى:" والشمس و ضحاها والقمر إذا تلاها" أي تبعها
في الطلوع بعد غيبتها ويقال جاء القوم يتلو بعضهم بعضا أي يتبع، وسمى تالي الكلام
تاليا لأنه يتبع بعض الحروف بعضا لا يخرجها جملة واحدة بل يتبع بعضها بعضا مرتبة
كلما انقضى حرف أو كلمة أتبعه بحرف آخر وكلمة أخرى وهذه
التلاوة وسيلة وطريقة
والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائماما به حيث ما قادك انقدت معه.. فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة فإنهم أهل تلاوة ومتابعة حقا
والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائماما به حيث ما قادك انقدت معه.. فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة فإنهم أهل تلاوة ومتابعة حقا
معيشة
الضنك
فصل
ثم قال تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"،
لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده أخبر عن حال من أعرض عنه ولم
يتبعه فقال" ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" ، أي عن الذكر الذي أنزلته،
فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل، كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول، وليس المعنى:
ومن أعرض عن أن يذكرني بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره؛ وأحسن من
هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها.
والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا، قال تعالى: "
وهذا ذكر مبارك انزلناه"، وقال تعالى: " ذلك نتلوه عليك من الآيات
والذكر الحكيم" وقال تعالى: " وما هو إلا ذكر للعالمين"، وقال تعالى: " إن الذين كفروا بالذكر لما
جاءهم وإنه لكتاب عزيز"، وقال تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي
الرحمن"، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة
العامل إلى معموله ونظيره في إضافة إسم الفاعل: " غافر الذنب وقابل التوب
شديد العقاب" فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد وإنما قصد بها
قصد الوصف الثابت اللازم. وكذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف وهو اسم الله تعالى
في قوله تعالى: "تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير"
فصل
وقوله تعالى: " فإن له معيشة ضنكا" فسرها غير واحد من السلف بعذاب القبر
وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر ولهذا قال: " ونحشره يوم القيامة
أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك
اليوم تنسى" أي تترك في العذاب كماتركت العمل بآياتنا، فذكر عذاب
البرزخ وعذاب دار البوار. ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: " النار يعرضون
عليها غدوا وعشيا" ، فهذا في البرزخ "ويوم تقوم
الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب" فهذا في القيامة الكبرى.
ونظيره قوله تعالى: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم
أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن
آياته تستكبرون " فقول الملائكة اليوم " تجزون عذاب الهون"
المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت؛ ونظيره قوله تعالى: " ولو ترى إذ
يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق "
فهذه الإذاقة هي في البرزخ وأولها حين الوفاة ،فإنه معطوف على قوله "يضربون
وجوههم وأدبارهم" وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه كنظائره،
وكلاهما واقع وقت الوفاة. وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه في قوله
تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة"
قال نزلت في عذاب القبر والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر..
والمقصود
أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى
فإن له معيشة ضنكا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة؛
فقال تعالى: " من عمل صالحا من ذكر او أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" فأخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك
بعهده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة بأحسن الجزاء، وهذا بعكس
من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالآخرة. وقال سبحانه:
" ومن
يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم
مهتدون" ، فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به
إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله، فكان عقوبة هذا الإعراض
أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه، وهو يحسب أنه مهتد، حتى
إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وإفلاسه قال: " يا ليت بيني
وبينك بعدالمشرقين فبئس القرين" وكل من أعرض عن الإهتداء بالوحي الذي هو ذكر
الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة؛ فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب
أنه على هدى كما قال تعالى: " ويحسبون انهم مهتدون" قيل لا عذر لهذا وأمثاله
من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله
عليه و سلم. ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرٌط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى، فإذا ضل
فإنما أتي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن
الوصول إليها فذاك له حكم آخر.. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول وأما الثاني
فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: " وما كنا معذبين
حتى نبعث رسولا" وقال تعالى "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس
على الله حجة بعد الرسل" وقال تعالى في أهل النار:" وما ظلمناهم
ولكن كانوا هم الظالمين" وقال تعالى: "أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في
جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول
حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها
واستكبرت وكنت من الكافرين" وهذا كثير في القرآن .
فصل
وقوله تعالى: " ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا"،
اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر والذين قالوا هو من عمى البصيرة
إنما حملهم على ذلك قوله: " اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا" وقوله: "
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" وقوله: "
يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين" وقوله: " لترون الجحيم ثم
لترونها عين اليقين" ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في قبورهم و إذا قاموا إلى
الموقف قاموا كذلك، ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد، وهذا مروى عن الحسن وقال
آخرون :هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبو الأسماع والأبصار والنطق
حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: " اخسئوا فيها ولاتكلمون"
فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا
يسمعون ولا ينطقون ولا يسمع منهم الا الزفير والشهيق، وهذا منقول عن مقاتل؛ والذين
قالوا المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم ولم يريدوا أن لهم
حجة هم عمي عنها بل هم عمي عن الهدى كما كانوا في الدنيا، فإن العبد يموت على
ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر وأنه
عمى البصر فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ويقر بما كان يجحده في الدنيا
فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
الكلمة السادسة والعشرون
بديع الزمان سعيد النورسي
رسالة القدر
بِسْمِ
الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
(واِنْ
مِنْ شيءٍ الاّ عندنا خزائنُهُ وما نُنَزّله اِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلومٍ) (الحجر:21)
(وكلّ
شيءٍ اَْحْصَيناه في إمامٍ مُبينٍ) (يس:12)
[القدر
الإلهي والجزء الإختياري مسألتان مهمتان. نحاول حلّ بعض أسرارهما في أربعة مباحث
تخص القدر]
المبحث الاول
أن القدر
والجزء الاختياري جزءان من إيمان حالي ووجداني، يبيّن نهاية حدود الإيمان والإسلام،
وليسا مباحث علمية ونظرية. أي:أن المؤمن يعطي لله كل شئ، ويحيل إليه كل أمر، وما
يزال هكذا حتى يحيل فعله ونفسه إليه.ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف
والمسؤولية يبرز أمامه الجزء الإختياري قائلاً له: "
أنت
مسؤول، أنت مكلّف
" !
ثم إنه لكي
لا يغتر بما صدر عنه من حسنات وفضائل، يواجهه القدر، قائلاً له: "
اعرف
حدّك، فلست أنت الفاعل
" .
أجل! إن
القدر والجزء الاختياري هما في أعلى مراتب الايمان والاسلام قد دخلا ضمن المسائل
الإيمانية، لأنهما ينقذان النفس الانسانية.. فالقدر ينقذها من الغرور، والجزء
الاختياري ينجيها من الشعور بعدم المسؤولية. وليسا من المسائل العلمية والنظرية
التي تفضي إلى ما يناقض سر القدر وحكمة الجزء الاختياري كلياً بالتشبث بالقدر
للتبرئة من مسؤولية السيئات التي اقترفتها النفوس الأمارة بالسوء والافتخار
بالفضائل التي اُنعمت عليها والإغترار بها وإسنادها إلى الجزء الإختياري.
أجل! إن
العوام الذين لم يبلغوا مرتبة إدراك سر القدر لهم مواضع لاستعماله، ولكن هذه
المواضع تنحصر في الماضيات من الأمور وبخصوص المصائب والبلايا والذي هو علاج اليأس
والحزن، وليس في أمور المعاصي أو في المقبلات من الأيام، والذي ينتفي كونه مساعداً
على اقتراف الذنوب والتهاون في التكاليف. بمعنى أن مسألة القدر ليست للفرار من
التكليف والمسؤولية، بل هو لإنقاذ الإنسان من الفخر والغرور، ولهذا دخلت ضمن مسائل
الإيمان.
أما الجزء الاختياري،
فقد دخل ضمن مباحث العقيدة ليكون مرجعاً للسيئات التي تسوق الى الطغيان والتفرعن ،
لا ليكون مصدراً للمحاسن والفضائل.
نعم! إن
القرآن الكريم يبين أن الانسان مسؤول عن سيئاته مسؤولية كاملة. لأن الانسان هو
الذي أراد السيئات. ولما كانت السيئات من قبيل التخريبات، لذا يستطيع الانسان أن
يوقع دماراً هائلاً بسيئة واحدة، كإحراق بيت كامل بعود ثقاب، وبذلك يستحق انزال
عقاب عظيم به.
أما في
الحسنات، فليس له الحق في الفخر والمباهاة، لأن حصته فيها ضئيلة جداً، لأن الرحمة
الإلهية هي التي أرادت الحسنات، واقتضتها. والقدرة الربانية هي التي أوجدتها،
فالسؤال والجواب والسبب والداعي كلاهما من الحق سبحانه وتعالى. ولا يكون الإنسان
مالكاً لهذه الحسنات وصاحباً لها إلاّ بالدعاء والتضرع، وبالإيمان، وبالشعور
بالرضى عنها. بينما الذي أراد السيئات هو النفس الانسانية، إما بالإستعداد أو بالاختيار،
مثلما تكتسب بعض المواد التعفن والإسوداد من ضياء الشمس الجميل اللامع، فذلك الإسوداد
إنما يعود إلى استعداد تلك المادة، ولكن الذي يوجد تلك السيئات بقانون إلهي متضمن
لمصالح كثيرة إنما هو الله سبحانه أيضاً. أي أن التسبب والسؤال هما من النفس
الانسانية بحيث تتحمل المسؤولية عنها. أما الخلق والإيجاد خاص به سبحانه وتعالى
فهو جميل، لأن له ثمرات أخرى جميلة، ونتائج شتى جميلة، فهو خير.
ومن هذا السر
يكون خلق الشر ليس شراً، وإنما كسب الشر شر، إذ لا يحق
لكسلان قد تأذى من المطر - المتضمن لمصالح غزيرة - أن يقول:المطر ليس رحمة.
نعم! إن في
الخلق والإيجاد خيراً كثيراً مع تضمنه لشر جزئي، و إن ترك خير كثير لأجل شر جزئي،
يحدث شراً كثيراً، لذا فإن ذلك الشر الجزئي يعدّ خيراً وفي حكمه. فليس في الخلق
الإلهي شرٌ ولا قبح، بل يعود الشر الى كسب العبد والى استعداده.
وكما أن
القدر الإلهي منزّه عن القبح والظلم، من حيث النتيجة والثمرات، كذلك فهو مقدّس عن
القبح والظلم من حيث العلة والسبب، لأن القدر الإلهي ينظر الى العلل
الحقيقية، فيعدل. بينما الناس يبنون أحكامهم على ما يشاهدونه من علل ظاهرة
فيرتكبون ظلماً ضمن عدالة القدر نفسه.
فمثل:هب أن
حاكماً قد حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة، وأنت برئ منها، ولكن لك قضية قتل مستورة
لا يعرفها إلاّ الله. فالقدر الإلهي قد حكم عليك بذلك السجن، وقد عدل من أجل
ذلك القتل المستور عن الناس. أما الحاكم فقد ظلمك، حيث حكم عليك بالسجن بتهمة
السرقة وأنت منها برئ.
وهكذا ففي
الشئ الواحد تظهر جهتان، جهة عدالة القدر والإيجاد الإلهي، وجهة ظلم البشر
وكسبه. قس بقية الأمور على هذا.أي أن القدر والإيجاد الإلهي
منزّهان عن الشر والقبح والظلم، باعتبار المبدأ والمنتهى والأصول والفروع والعلل
والنتائج.
وإذا قيل:
ما دام الجزء
الاختياري لا قابلية له في الإيجاد، ولا يوجد في يد الانسان غير الكسب الذي هو في
حكم أمر اعتباري، فكيف يكون إذن شكوى القرآن المعجز البيان من هذا الانسان شكاوى
عظيمة تجاه عصيانه خالق السموات والارض؛ حتى كأنه اُعطي له وضع العدو العاصي، بل
يرسل سبحانه جنوده الملائكة لإمداد العبد المؤمن تجاه ذلك العاصى، بل يُمدّه خالق
السموات والارض بنفسه.. فِلمَ هذه الأهمية البالغة؟
الجواب:لأن
الكفر والعصيان والسيئة كلها تخريب وعدم، ويمكن أن تترتب تخريبات هائلة وعدمات غير
محدودة على أمرٍ اعتباري وعدمي واحد. اذ كما أن عدم إيفاء ملاح سفينة ضخمة بوظيفته
يغرق السفينة، ويفسد نتائج أعمال جميع العاملين فيها، لترتب جميع تلك التخريبات
الجسيمة على عمل عدمٍ واحد، كذلك
الكفر
والمعصية، لكونهما نوعاً من العدم والتخريب، فيمكن أن يحركهما الجزء الاختياري
بأمر اعتباري، فيسببان نتائج مريعة. لأن الكفر وإن كان سيئة واحدة؛ إلاّ انه تحقير
لجميع الكائنات بوصمها بالتفاهة والعبثية، وتكذيب لجميع الموجودات الدالة على
الوحدانية، وتزييف لجميع تجليات الأسماء الحسنى. فإن تهديده سبحانه وتعالى وشكواه
بإسم الكائنات قاطبة، والموجودات كافة والأسماء الإلهية الحسنى؛ كلها من
الكافر شكاوى عنيفة وتهديدات مريعة هو عين الحكمة وأن تعذيبه بعذاب خالد هو عين
العدالة.
وحيث أن الإنسان
لدى انحيازه إلى جانب التخريب بالكفر والعصيان، يسبب دماراً رهيباً بعمل جزئي، فإن
أهل الإيمان محتاجون إذن، تجاه هؤلاء المخربين، إلى عناية إلهية عظيمة، لأنه إذا
تعهّد عشرة من الرجال الأقوياء بالحفاظ على بيت وتعميره، فإن طفلاً شريراً
في محاولته احراق البيت، يُلجئ إولئك الرجال إلى الذهاب إلى وليّه بل التوسل إلى
السلطان.
لذا
فالمؤمنون محتاجون أشد الحاجة إلى عنايته سبحانه وتعالى للصمود تجاه هؤلاء العصاة
الفاجرين.
نحصل مما سبق: أن الذي يتحدث عن القدر والجزء
الاختياري إن كان ذا إيمان كامل، مطمئن القلب، فإنه يفوّض أمر الكائنات كلها،
ونفسه كذلك، إلى الله سبحانه وتعالى، ويعتقد بأن الأمور تجري تحت تصرفه سبحانه
وتدبيره. فهذا الشخص يحق له الكلام في القدر والجزء الاختياري لأنه يعرف أن نفسه
وكل شئ، منه سبحانه وتعالى. فيتحمل المسؤولية، مستنداً الى الجزء الاختياري الذي
يعتبره مرجعاً للسيئات، فيقدّس ربه وينزّهه، ويظل في دائرة العبودية ويرضخ
للتكليف الإلهي ويأخذه على عاتقه. وينظر إلى القدر في الحسنات والفضائل
الصادرة عنه، لئلا يأخذه الغرور، فيشكر ربه بدل الفخر، ويرى القدر في المصائب التي
تنزل به فيصبر.
ولكن إن كان الذي يتحدث في
القدر الإلهي والجزء الاختياري من أهل الغفلة، فلا يحق له الخوض فيهما، لأن
نفسه الأمارة بالسوء -
بدافع من الغفلة أو الضلالة - تحيل الكائنات إلى الاسباب، فتجعل ما
لله إليها، وترى نفسها مالكة لنفسها، وترجع أفعالها إلى نفسها و تسنـدها إلى الأسباب،
بينما تحمّل القدر المسؤولية
والتقصيرات. وحينئذٍ يكون الخوض في
القدر والجزء الاختياري باطلاً لا أساس له -
بهذا المفهوم - ولا يعني سوى دسيسة نفسية تحاول
التملص من المسؤولية، مما ينافي حكمة القدر وسر الجزء الاختياري.
المبحث الثاني
هذا
المبحث بحث علمي دقيق خاص للعلماء ( هذا المبحث الثاني هو أعمق وأعضل مسألة في القدر، وهو مسألة
عقائدية كلامية ذات أهمية جليلة لدى العلماء المحققين، وقد حلتها رسائل النور حلاً
تاماً. - المؤلف.)
إذا قلت: كيف يمكن التوفيق بين القدر والجزء الاختياري؟
الجواب:بسبعة
وجوه:
الأول : أن العادل الحكيم الذي تشهد لحكمته وعدالته الكائنات كلها، بلسان
الانتظام والميزان، قد اعطى للإنسان جزءاً اختيارياً مجهول الماهية، ليكون مدار
ثواب وعقاب. فكما أن للحكيم العادل حكَماً كثيرة خفية عنا، كذلك كيفية التوفيق بين
القدر والجزء الاختياري خافية علينا. ولكن عدم علمنا بكيفية التوفيق لا يدل على
عدم وجوده.
الثاني : أن كل إنسان يشعر بالضرورة أن له إرادة واختياراً في نفسه، فيعرف
وجود ذلك الإختيار وجداناً. وإن العلم بماهية الموجودات شيء والعلم بوجودها شيء
آخر. فكثير من الأشياء وجودها بديهي لدينا إلاّ أن ماهيتها مجهولة بالنسبة إلينا.
فهذا الجزء الإختياري يمكن أن يدخل ضمن تلك السلسلة، فلا ينحصر كل شئ في نطاق
معلوماتنا، وإن عدم علمنا لا يدل على عدمه.
الثالث : أن الجزء الاختياري لا ينافي القدر، بل القدر يؤيد الجزء
الاختياري؛ لأن القدر نوع من العلم الإلهي، وقد تعلق العلم الإلهي
باختيارنا، ولهذا يؤيد الإختيار ولا يبطله.
الرابع : القدر نوع من العلم، والعلم تابع للمعلوم، أي على أية كيفية يكون
المعلوم يحيط به العلم ويتعلق به، فلا يكون المعلوم تابعاً للعلم، أي أن
دساتير العلم ليست أساساً لإدارة المعلوم من حيث الوجود الخارجي، لأن ذاتَ المعلوم
ووجوده الخارجي ينظر إلى الإرادة ويستند إلى القدرة.
ثم إن الأزل
ليس طرفاً لسلسلة الماضي كي يُتخذ أساساً في وجود الأشياء و يُتصور اضطراراً بحسبه،
بل الأزل يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل - كإحاطة السماء بالأرض - كالمرآة الناظرة من الأعلى.
لذا ليس من
الحقيقة في شئ تخيل طرفٍ ومبدأٍ في جهة الماضي للزمان الممتد في دائرة الممكنات وإطلاق
إسم الأزل عليه، ودخول الأشياء بالترتيب في ذلك العلم الأزلي، وتوهم المرء نفسه في
خارجه، ومن ثم القيام بمحاكمة عقلية في ضوء ذلك.
فانظر إلى
هذا المثال لكشف هذا السر:
إذا وجدت في
يدك مرآة، وفرضتَ المسافة التي في يمينها الماضي. والمسافة التي في يسارها
المستقبل، فتلك المرآة لا تعكس إلاّ ما يقابلها، وتضم الطرفين بترتيب معين، حيث لا
تستوعب أغلبهما، لأن المرآة كلما كانت واطئة عكست القليل، بينما اذا رفعت إلى الأعلى
فإن الدائرة التي تقابلها تتوسع، وهكذا بالصعود تدريجياً تستوعب المرآة المسافة في
الطرفين معاً في نفسها في آن واحد.
وهكذا يرتسم
في المرآة في وضعها هذا كل ما يجري من حالات في كلتا المسافتين. فلا يقال إن
الحالات الجارية في إحداها مقدمة على الأخرى، أو مؤخرة عنها، أو توافقها، أو
تخالفها.
وهكذا
فالقدر الإلهي لكونه من العلم الأزلي، والعلم الأزلي " في مقام رفيع
يضم كل ما كان وما يكون، ويحيط به " كما يُعبّر عنه في
الحديث الشريف، لذا لا نكون نحن ولا محاكماتنا العقلية خارجَين عن هذا العلم
قطعاً، حتى نتصوره مرآة تقع في مسافة الماضي.
الخامس : أن القدر
يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معا - فالإرادة لا تتعلق مرة بالمسبب ثم بالسبب مرة أخرى - أي ان هذا
المسبَّب سيقع بهذا السبب. لذا يجب ألاّ يقال: ما دام موت الشخص الفلاني مقدّراً
في الوقت الفلاني، فما ذنب من يرميه ببندقية بإرادته الجزئية؛ إذ لو لم يرمه لمات
ايضا؟
سؤال:لِمَ
يجب الاّ يقال؟
الجواب:لأن
القدر قد عّين موته ببندقية ذاك، فإذا فرضت عدم رميه، عندئذٍ تفرض عدم تعلق القدر.
فبِمَ تحكم إذن على موته. إلاّ إذا تركت مسلك أهل السنة والجماعة
ودخلت ضمن الفرق الضالة التي تتصور قدراً للسبب وقدراً للمسبب، كما هو عند
الجبرية. أو تنكر القدر كالمعتزلة. أما نحن أهل الحق فنقول: لو لم يرمه فإن موته
مجهول عندنا. أما الجبرية فيقولون: لو لم يرمه لمات ايضاً. بينما المعتزلة
يقولون:لو لم يرمه لا يموت.
....
حاصل الكلام:
أيها الإنسان! إن لك إرادة
في منتهى الضعف، إلاّ أن يدها طويلة في السيئات والتخريبات وقاصرة في الحسنات، هذه
الإرادة هي التي تسمى بالجزء الاختياري. فسلّم لإحدى يدي تلك الإرادة الدعاء، كي تمتد
وتطال إلى الجنة التي هي ثمرة من ثمار سلسلة الحسنات وتبلغ السعادة الأبدية التي
هي زهرة من أزاهيرها.. وسلّم لليد الاخرى الاستغفار كي تقصر يدها عن السيئات، ولا
تبلغ ثمرة الشجرة الملعونة زقوم جهنم. أي أن الدعاء والتوكل يمدّان ميلان الخير
بقوة عظيمة، كما أن الاستغفار والتوبة يكسران ميلان الشر ويحدّان من تجاوزه.
المبحث الثالث
إن الإيمان
بالقدر من أركان الإيمان، أي أن كل شئ بتقدير الله،
والدلائل القاطعة على القدر كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى. ونحن سنبين هنا مدى قوة
هذا الركن الإيماني وسعته بأسلوب بسيط وظاهر في مقدمة.
المقدمة
إن كل شئ قبل
كونه وبعد كونه مكتوب في كتاب، يصرّح بهذا
القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة أمثال (ولا
رطب ولا يابس الاّ في كتاب مبين) وتصدّق هذا الحكم القرآني الكائنات قاطبة،
التي هي قرآن القدرة الإلهية الكبير، بآيات النظام والميزان والإنتظام والإمتياز
والتصوير والتزيين وأمثالها من الايات التكوينية.
نعم! إن
كتابات كتاب الكائنات المنظومة وموزونات آياتها تشهد على أن كل شئ مكتوب. أما
الدليل على أن كل شئ مكتوب ومقدّر قبل وجوده وكونه، فهو جميع المبادىء والبذور
وجميع المقادير والصور شواهد صدق. إذ ما البذور إلاّ صنيديقات لطيفة أبدعها معمل (ك.ن) أودع فيها
القدر فهيرس رسمه، وتبني القدرة - حسب هندسة القدر ـ معجزاتها العظيمة على تلك البذيرات،
مستخدمة الذرات. بمعنى أن كل ما سيجري على الشجرة من أمور مع جميع وقائعها، في حكم
المكتوب في بذرتها. لأن البذور بسيطة ومتشابهة مادةً، فلا اختلاف بينها.
ثم إن
المقدار المنظم لكل شئ يبين القدر بوضوح فلو دقق النظر إلى كائن حي لتبين أن له
شكلاً ومقداراً، كأنه قد خرج من قالب في غاية الحكمة والإتقان، بحيث أن اتخاذ ذلك
المقدار والشكل والصورة، إما انه يتأتى من وجود قالب مادي خارق في منتهى
الانثناءات والانحناءات.. أو أن القدرة الإلهية تفصّل تلك الصورة وذلك الشكل
وتُلبسها الشجرة بقالب معنوي علمي موزون أتي من القدر.
تأمل الآن في
هذه الشجرة، وهذا الحيوان، فالذرات الصم العمي الجامدة التي لا شعور لها
والمتشابهة بعضها ببعض، تتحرك في نمو الأشياء، ثم تتوقف عند حدود معينة توقف عارف
عالم بمظان الفوائد والثمرات. ثم تبدل مواضعها وكأنها تستهدف غاية كبرى.
أي أن الذرات تتحرك على وفق المقدار
المعنوي الآتي من القدر، وحسب الأمر المعنوي لذلك المقدار.
فما دامت
تجليات القدر موجودة في الأشياء المادية المشهودة إلى هذه الدرجة، فلابد أن أوضاع
الأشياء الحاصلة والصور التي تلبسها والحركات التي تؤديها بمرور الزمان تابعة أيضاً
لإنتظام القدر.
نعم! إن في
البذرة تجليين للقدر.
الأول:(بديهي)
يخبر ويشير إلى الكتاب المبين الذي هو عنوان الإرادة والأوامر التكوينية.
والآخر:تجلٍ
نظري (معقول) يخبر ويرمز إلى الإمام المبين الذي هو عنوان الأمر والعلم الإلهي.
(فالقدر البديهي)
هو ما تتضمن تلك البذرة من أوضاع وكيفيات وهيئات مادية للشجرة، والتي
ستشاهد فيما بعد.
و(القدر النظري)
هو ما سيخلق من تلك البذرة من أوضاع وأشكال وحركات وتسبيحات طوال حياة
الشجرة وهي التي يُعبّر عنها بتاريخ حياة الشجرة. فتلك الأوضاع والأشكال والأفعال
تتبدل حيناً بعد حين إلاّ أن لها مقداراً قدرياً منتظماً، كما هو الظاهر في أغصان
الشجرة وأوراقها.
فلئن كان
للقدر تجلٍ كهذا في الأشياء الإعتيادية والبسيطة، فلابد أن هذا يفيد أن الأشياء
كلها قبل كونها ووجودها مكتوبة في كتاب، ويمكن أن يفهم ذلك بشئ من التدبر.
أما الدليل
على أن تأريخ حياة كل شئ، بعد وجوده وكونه، مكتوب؛ فهو جميع الثمرات التي
تخبر عن الكتاب المبين والإمام المبين. والقوة الحافظة للإنسان التي
تشير إلى اللوح المحفوظ وتخبر عنه، كل منها شاهد صادق، وأمارة وعلامة على ذلك.
نعم! إن كل
ثمرة تُكتب في نواته - التي هي في حكم قلبه - مقدّرات حياة الشجرة ومستقبلها أيضاً.
والقوة
الحافظة للانسان - التي هي كحبة خردل في الصغر - تَكتب فيها يدُ القدرة بقلم القدر تاريخ حياة الإنسان
وقسماً من حوادث العالم الماضية كتابةً دقيقة، كأنها وثيقة وعهد صغير من صحيفة الأعمال
أعطته تلك القدرة للإنسان ووضعها في زاوية من دماغه ليتذكر بها وقت المحاسبة،
وليطمئن أنّ خلق هذا الهرج والمرج والفناء والزوال مرايا للبقاء، رسَمَ فيها
القدير هوّيات الزائلات، وألواحاً يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات.
نحصل مما سبق: أن
حياة النباتات، إن كانت منقادة إلى هذا الحد لنظام القدر مع أنها أدنى حياة وأبسطها،
فإن حياة الإنسان التي هي في أعلى مرتبة من مراتب الحياة، لابد أنها رسمت بجميع
تفرعاتها بمقياس القدر وكتبت بقلمه.
نعم! كما أن
القطرات تُخبر عن السحاب، والرشحات تدل على نبع الماء والمستندات والوثائق تشير
الى وجود السجل الكبير، كذلك الثمرات والنطف والبذور والنوى والصور والأشكال
الماثلة أمامنا وهي في حكم رشحات القدر البديهي - أي الانتظام
المادي في الأحياء - وقطرات القدر النظري أ اي الانتظام
المعنوي والحياتي - وبمثابة مستنداتهما ووثائقهما.. تدل
بالبداهة على الكتاب المبين، وهو سجل الإرادة والأوامر التكوينية، وعلى
اللوح المحفوظ، الذي هو ديوان العلم الإلهي، الإمام المبين.
النتيجة:ما دمنا نرى
أن ذرات كل كائن حي، أثناء نموه ونشوئه ترحل إلى حدود ونهايات ملتوية منثنية
وتقف عندها. وتغير طريقها لتثمر في تلك النهايات حكمةً وفائدة ومصلحة. فبالبداهة أن
المقدار الظاهري لذلك الشئ قد رُسم بقلم القدر.
وهكذا فإن
القدر البديهي المشهود يدل على ما في الحالات المعنوية أيضاً لذلك الكائن الحي من
حدود منتظمة ومثمرة ونهايات مفيدة قد رسمت بقلم القدر أيضاً. فالقدرة مصدر، والقدر
مِسطَر، تُسطّر القدرةُ على مسطر القدر، ذلك الكتاب للمعاني.
فما دمنا
ندرك إدراكاً جازماً أن ما رُسم من حدود وثمرات ونهايات حكيمة، إنما هو بقلم القدر
المادي والمعنوي، فلابد أن ما يجريه الكائن الحي طوال حياته من أحوال وأطوار قد
رسم ايضاً بقلم ذلك القدر. إذ إن تاريخ حياته يجري على وفق نظام وانتظام، مع
تغييره الصور واتخاذه الأشكال. فما دام قلم القدر مهيمناً على جميع ذوي الحياة،
فلاشك أن تاريخ حياة الانسان - الذي هو أكمل ثمرة من ثمرات العالم وخليفة الأرض الحامل
للأمانة الكبرى - أكثر انقياداً
لقانون القدر من أي شئ آخر.
فإن قال:
أن القدر قد
كبّلنا وسلب حريتنا، ألا ترى أن الإيمان بالقدر يورث ثقلاً على القلب ويولد ضيقاً
في الروح، وهما المشتاقان الى الانبساط والجولان؟
والجواب:كلا.
حاشَ للّه! فكما أن القدر لا يورث ضيقاً، فإنه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية
وسروراً ونوراً يحقق الأمن والأمان والروح والريحان؛ لأن الإنسان إن لم يؤمن
بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة
وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد
ومطالب لا تنتهيان إلاّ ان قدرته و إرادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون
من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم
الإيمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.
بينما الإيمان
بالقدر يحمل الإنسان على أن يضع جميع تلك الأثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة
تامة، إذ ينفتح أمام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما
بحرية تامة. بيد أن هذا الإيمان يسلب من النفس الأمارة بالسوء حريتها الجزئية
ويكسر فرعونيتها ويحطم ربوبيتها ويحدّ من حركاتها السائبة.
ألا إن الإيمان
بالقدر لذيذ ما بعده لذة، وسعادة ما بعدها سعادة. وحيث لا نستطيع تعريف تلك اللذة
والسعادة، نشير اليهما بالمثال الآتي:
رجلان
يسافران معاً إلى عاصمة سلطان عظيم، ويدخلان إلى قصر السلطان العامر بالعجائب
والغرائب. أحدهما لا يعرف السلطان ويريد أن يسكن في القصر خلسة ويمضي حياته بغصب
الأموال، فيعمل في حديقة القصر. ولكن إدارة تلك الحديقة وتدبيرها وتنظيم وارداتها
وتشغيل مكائنها وإعطاء أرزاق حيواناتها الغريبة وأمثالها من أمورها المرهقة دفعته إلى
الإضطراب الدائم والقلق المستمر، حتى أصبحت تلك الحديقة الزاهية الشبيهة بالجنة
جحيماً لا يطاق. إذ يتألم لكل شئ يعجز عن إدارته، فيقضي وقته بالآهات والحسرات. وأخيراً
يُلقى به في السجن عقاباً وتأديباً له لسوء تصرفه وأدبه.
أما الشخص
الثاني فإنه يعرف السلطان، ويعدّ نفسه ضيفاً عليه، ويعتقد أن جميع الأعمال في
القصر والحديقة تدار بسهولة تامة .. بنظام وقانون وعلى وفق برنامج ومخطط، فيلقي
الصعوبات والتكاليف إلى قانون السلطان، مستفيداً بانشراح تام وصفاء كامل من متع
تلك الحديقة الـزاهرة كالجـنة، ويرى كل شئ جميلاً
حقاً، استناداً الى عطف السلطان ورحمته، واعتماداً على جمال قوانينه الإدارية..
فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة.
فافهم
من هذا سر (من آمن بالقدر أمن من الكدر)
المبحث الرابع
إذا قلت: لقد
اُثبت في المبحث الاول أن كل ما للقدر جميل وخير، بل حتى الشر الآتي منه خير.
والقبح الوارد منه جميل . بينما المصائب والبلايا التي تنزل في دار الدنيا هذه
تجرح هذا الحكم وتقدح بهذا الاثبات.
الجواب:يا
نفسي ويا صاحبي!
يا من
تتألمان كثيراً لشدة ما تحملان من شفقة ورأفة. اعلما أن الوجود خير محض والعدم شر
محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل الى الوجود، وكون العدم أساس
جميع المعاصي والمصائب والنقائص.
ولما كان
العدم شراً محضاً، فالحالات التي تنجر إلى العدم أو يُشم منها العدم تتضمن الشر أيضاً،
لذا فالحياة التي هي أسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن أحوال مختلفة، وتتصفى
بدخولها أوضاعاً متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة، وتبين نقوش أسماء
واهب الحياة بياناً لطيفاً وجميلاً بتحولها في أطوار متنوعة.
وبناءً على
هذه الحقيقة تعرض حالات على الأحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات،
فتتجدد بتلك الحالات أنوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، وإذا
بحياتهم تتطهر وتتصفى، ذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة،
كل منها عدمٌ في الكيفيات والأحوال. حتى أن أعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في
الحالات الرتيبة.
حاصل الكلام : لما كانت الحياة تبين نقوش الأسماء الحسنى، فكل ما ينزل بالحياة إذن
جميل وحسن.
فمثل:أن
صانعاً ثرياً ماهراً يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له في ظرف ساعة
بدور النموذج " موديل " لأجل اظهار آثار صنعته الجميلة
وابراز مدى ثرواته القيّمة فيُلبسه ما نسجه من حلة قشيبة
في غاية الجمال والإبداع،و يجرى عليه أعمالاً ويظهر أوضاعاً و أشكالاً شتى لإظهار
خوارق صنائعه وبدائع مهاراته، فيقصّ ويبدّل ويطوّل ويقصر، وهكذا...
تُرى أيحق
لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: " إنك تتعبني وترهقني
بطلبك منّي الإنحناء مرة والإعتدال أخرى.. وأنك تشوّه بقصّك وتقصيرك هذا القميص
الذي يجمّلني ويزينني؟ ترى أيقدر ان يقول له: لقد ظلمت وما انصفت؟! "
وكذلك الأمر
في الصانع الجليل الفاطر الجميل (ولله المثل الاعلى) إذ يبدّل قميص الوجود الذي
ألبسه ذوي الحياة، ويقلبه في حالات كثيرة، ذلك القميص المرصع باللطائف والحواس
كالعين والأذن والعقل والقلب وأمثالها، يبدّله ويقلّبه إظهاراً لنقوش أسمائه
الحسنى.
ففي الأوضاع
التي تتسم بالآلام والمصائب أنوار جمال لطيف تشف عن أشعة رحمة ضمن لمعات
الحكمة الإلهية، اظهاراً لأحكام بعض الأسماء الحسنى.
الخاتمة
[هذه فقرات
خمس اسكتت النفس الأمارة بالسوء لسعيد القديم (هكذا يسمي نفسه في الحالة التي كان
عليها قبل أن يصير سعيد الجديد)، تلك النفس الجاهلة المتفاخرة المغرورة المرائية
المعجبة بنفسها]
الفقرة
الاولى:
ما دامت الأشياء
موجودة ومتقنة الصنع، فلابد أن صانعاً ماهراً قد صنعها. فلقد اثبتنا في الكلمة
الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً انه:
إن لم تُسند
كل الأشياء إلى الواحد الأحد، يتعسر كل شئ كتعسر الأشياء كلها. وإن اُسند كل شئ
الى الواحد الأحد، تسهل الأشياء كلها كسهولة شئ واحد.
ولما كان
الذي خلق الأرض والسموات هو الواحد الأحد، فلابد أن ذلك البديع الحكيم لا يعطى
ثمرات الارض والسموات ونتائجهما وغاياتهم - وهم ذوو الحياة - إلى غيره
فيفسد الأمور. ولا يمكن أن يسلّمها إلى أيدي الآخرين فيعبث بجميع أعماله الحكيمة.
ولا يمكن ان يبيدها.. ولا يسلّم أيضاً شكرها وعباداتها إلى غيره.
الفقرة
الثانية:
يا نفسي
المغرورة! إنكِ تشبهين ساق العنب، لا تغتري ولا تفتخري، فتلك الساق لم تعلق
العناقيد على نفسها، بل علّقها عليها غيرها.
الفقرة
الثالثة:
يا نفسي
المرائية! لا تغتري قائلة: إنني خدمت الدين. فإن الحديث الشريف صريح بـ (أن الله
ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) فعليك أن تعدّى نفسكِ ذلك الرجل
الفاجر، لأنك غير مزكاة.
واعلمي
أن خدمتك للدين وعباداتك ما هي إلا شكر ما أنعم الله عليك، وهي أداء لوظيفة الفطرة
وفريضة الخلق ونتيجة الصنعة الإلهية.. اعلمي هذا وانقذي نفسك من العجب
والرياء.
الفقرة
الرابعة:
إن كنت
ترومين الحصول على علم الحقيقة، والحكمة الحقة، فاظفري
بمعرفة الله، إذ حقائق الموجودات
كلها، إنما هي أشعة اسم الله
الحق، ومظاهر أسمائه الحسنى، وتجليات صفاته
الجليلة. واعلمي أن حقيقة كل شئ مادياً كان أو معنوياً وجوهرياً أو عرضياً، وحقيقة
الإنسان نفسه إنما تستند الى نور من أنوار أسمائه تعالى وترتكز على حقيقته. وإلاّ
فهي صورة تافهة لا حقيقة لها. ولقد ذكرنا في ختام الكلمة العشرين شيئاً من هذا
البحث.
يا نفسي!
ان
كنت مشتاقة إلى هذه الدنيا، وتفرين من الموت، فاعلمي يقيناً أن ما تظنينه حياة، ما
هو إلاّ الدقيقة التي أنت فيها، فما قبل تلك الدقيقة من زمان وما فيه من أشياء
دنيوية كله ميت. وما بعد تلك الدقيقة من زمان وما فيه كله عدم، لا شئ. بمعنى
أن ما تفتخرين به وتغترين به من حياة فانية ليس إلاّ دقيقة واحدة، حتى أن قسماً من
اهل التدقيق قالوا: إن الحياة عاشرة عشر من الدقيقة، بل آنٌّ سيّال.. من هنا حَكَم
قسم من أهل الولاية والصلاح بعدمية الدنيا من حيث أنها دنيا.
فما دام الأمر هكذا فدعي الحياة المادية النفسية واصعدي إلى
درجات حياة القلب والروح والسر. وانظري ما أوسع دائرة حياتها، فالماضي والمستقبل -
الميتان بالنسبة لك - حيّان
بالنسبة لها وموجودان.
فيا نفسي:
ما دام
الامر هكذا، ابكي كما يبكي قلبي واستغيثي وقولي:
أنا فانٍ، من
كان فانياً لا أريد
أنا عاجز، من
كان عاجزاً لا أريد..
سلمت روحي
للرحمن، سواه لا أريد..
بل أريد،
ولكن حبيباً باقياً أريد..
أنا ذرة..
ولكن شمساً
سرمداً أريد.
أنا لا شئ
ومن غير شئ، ولكن الموجودات كلّها أريد.
الفقرة
الخامسة:
هذه الفقرة
خطرت باللغة العربية وكتبت كما وردت. وهي إشارة الى مرتبة من المراتب الثلاث
والثلاثين في ذكر " الله أكبر " .
الله أكبر؛ إذ هو القدير
العليم الحكيم الكريم الرحيم الجميل النقاش الازلي الذي ما حقيقة هذه الكائنات
كلاً وجزءاً وصحائف وطبقاتٍ وما حقائق هذه الموجودات كلياً وجزئياً ووجوداً وبقاءً
إلا:
خطوط قلم قـضائه وقدره وتنظيمه
وتقديره بعلمٍ وحكمة.ٍ
ونقوش بركار علمه وحكمته وتصويره
وتدبيره بصنع وعناية.
وتزيينات يد بـيـضاء صنعه وعنايته
وتزيينه وتنويره بلطف وكرمٍِ.
وأزاهير لطائف لطفه وكرمه وتودده
وتعرّفه برحمة ونعمة.
وثمرات فياض رحمته ونعمته وترحمه
وتحننه بجمال وكمال.
ولمعات وتجليات جماله وكماله بشهادات
تفانية المرايا وسيالية المظاهر مع بقاء الجمال المجرد السرمدي، الدائم التجلي
والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور، ودائم الإنعام على مر الآنام والأيام والأعوام.
نعم فالأثر
المكمّل يدل ذا عقل على الفعل المكمّل ثم الفعل المكّمل يدل ذا فهم على الإسم
المكمل ثم الإسم المكمّل يدل بالبداهة على الوصف المكمّل ثم الوصف المكمل يدل
بالضرورة على الشأن المكمّل ثم الشأن المكمل يدل باليقين على كمال الذات بما يليق
بالذات وهو الحق اليقين.
نعم تفاني
المرآة، زوال الموجودات، مع التجلي الدائم مع الفيض الملازم.. من أظهر الظواهر أن
الجمال الظاهر، ليس ملك المظاهر.. من أفصح تبيان.. من أوضح برهان للجمال المجرد للإحسان
المجدد للواجب الوجود.. للباقي الودود..
اللّهم صل
على سيّدنا محمّد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله
وعلى آله
وصحبه وسلم.
ذيل
هذا الذيل
القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع
للوصول الى
الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل
الصائبة هو القرآن الكريم. إلا أن بعض هذه الطرق أقرب من بعض وأسلم وأعم.
وقد استفدت
من فيض القرآن الكريم - بالرغم من فهمي القاصر- طريقاً
قصيراً وسبيلاً سوياً هو:
طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.
نعم! إن
العجز كالعشق طريق موصل إلى الله، بل أقرب وأسلم، اذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق
العبودية.
والفقر مثله
يوصل إلى اسم الله " الرحمن " .
وكذلك الشفقة
كالعشق موصل إلى الله إلا انه أنفذ منه في السير وأوسع منه مدى، إذ هو يوصل الى
اسم الله " الرحيم " .
والتفكر أيضاً
كالعشق إلا أنه أغنى منه وأسطع نوراً وأرحب سبيلاً، إذ هو يوصل السالك الى
اسم الله " الحكيم " .
وهذا الطريق
يختلف عما سلكه أهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن أربع خطوات فحسب، وهو حقيقة
شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.
ولا يذهبن
بكم سوء الفهم إلى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير إنما هو اظهار ذلك كله أمام
الله سبحانه وليس إظهاره أمام الناس.
أما أوراد
هذا الطريق القصير وأذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض،
ولا سيما إقامة الصلاة باعتدال الأركان والعمل بالأذكار عقبها.. وترك
الكبائر.
أما منابع
هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:
(فلا تُزكّوا انفُسَكم) (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.
(ولا تكونوا كالذين
نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم) (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.
(ما اصابكَ مِن
حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِك) (النساء:79) تشير
الى الخطوة الثالثة:
(كلُّ شيءٍ هالكٌ
الاّ وجْهَه) (القصص:88) ، تشير الى الخطوة الرابعة.
و إيضاح هذه
الخطوات الأربع بإيجاز شديد هو:
الخطوة
الاولى:
كما تشير
اليها الآية الكريمة (فلا تزكوا انفسكم) وهي:
عدم تزكية النفس. ذلك لان الإنسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه
بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من أجل نفسه، ويمدح نفسه
مدحاً لا يليق إلا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل
التقصير لنفسه أصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما
أودعه الله فيه من أجهزة لحمده سبحانه وتقديسه إلى نفسه، فيصيبه وصف الآية
الكريمة: (من اتّخذ الهَه هَواه) (الفرقان:43)
فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد إذن من تزكيتها فتزكيتُها في هذه الخطوة
وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.(افهم)
الخطوة
الثانية:
كما تلقّنه
الآية الكريمة من درس: (ولا تكونوا كالذين
نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم). وذلك: أن الإنسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فإذا
ما فكر في الموت صرفه إلى غيره، وإذا ما رأى الفناء والزوال دفعه إلى الآخرين،
وكأنه لا يعنيه بشئ، إذ مقتضى النفس الأمارة انها تذكر ذاتها في مقام أخذ
الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل
والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:
العمل بعكس
هذه الحالة، أي عدم النسيان في عين النسيان، أي نسيان النفس في الحظوظ والأجرة،
والتفكر فيها عند الخدمات والموت.
والخطوة
الثالثة:
هي ما ترشد
اليه الآية الكريمة: (ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ
الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك) وذلك: أن ما تقتضيه النفس دائماً أنها
تنسب الخير إلى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه
الخطوة أن لا يرى من نفسه إلا القصور والنقص والعجز والفقر، وأن يرى كل
محاسنه وكمالاته إحساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماً منه سبحانه، فيشكر عندئذ
بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هذه المرتبة هي في سر
هذه الآية الكريمة: (قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها)
(الشمس:9).
وهي أن تعلم
بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (أي كمال النفس في
معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).
الخطوة
الرابعة:
هي ما تعلمه
الآية الكريمة: (كُلُّ شَيٍء هالكٌ الا وجْهَه).
ذلك لأن النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعي نوعاً من الربوبية،
وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبإدراك الحقيقة الآتية ينجو الإنسان من ذلك وهي:
كل شئ بحد
ذاته، وبمعناه الإسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، إلا انه في معناه
الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار
مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.
فتزكيتها في
هذه الخطوة هي معرفة: أن عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، أي إذا رأت
ذاتها وأعطت لوجودها وجوداً، فإنها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني
إذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فإنها تجد نفسها وحيدة
غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي
الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الأنانية والغرور ترى نفسها
حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود
غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.
نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما
الموجودات جميعها إلا تجليات أسمائه الحسنى جل جلاله.
خاتمة
إن هذا
الطريق الذي يتكون من أربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت
ايضاحاته في " الكلمات الست والعشرين " السابقة من كتاب
" الكلمات " الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة
الشريعة، حكمة القرآن الكريم. إلا اننا نشير هنا اشارة قصيرة إلى بضع نقاط وهي: أن
هذا الطريق هو أقصر وأقرب من غيره، لأنه عبارة عن أربع خطوات. فالعجز إذا ما تمكن
من النفس يسلّمها مباشرة الى " القدير " ذي الجلال.بينما
اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فإنها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ
المحبوب الحقيقي.
ثم أن هذا
الطريق أسلم من غيره، لأن ليس للنفس فيه شطحات أو ادعاءات فوق طاقتها، إذ المرء لا
يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.
ثم إن هذا
الطريق طريق عام وجادة كبرى، لأنه لا يضطر إلى إعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث أن
اهل " وحدة الوجود " توهموا الكائنات عدماً، فقالوا:
" لا موجود إلا هو " لأجل الوصول إلى الإطمئنان والحضور
القلبي. وكذا اهل " وحدة الشهود " حيث سجنوا الكائنات في
سجن النسيان فقالوا: " لا مشهود الا هو " للوصول الى الإطمئنان
القلبي.
بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات
بكل وضوح عن الإعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى
الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وأنها مظاهر لتجليات الأسماء
الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. أي أنه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن
المعنى الإسمى من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة،
ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل
شئ.
وزبدة الكلام: أن هذا الطريق لا ينظر
إلى الموجودات بالمعنى الإسمي، أي لا ينظر اليها أنها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل
يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، أنها مسخرة لله سبحانه.
رحم الله
بديع الزمان سعيد النورسي و جازاه عنا أحسن جزاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق