التفكر و التدبر منهج التوحيد

سبحان الذي لبس العز وقال به، سبحان الذي تعطف بالمجد و تكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له،
سبحان ذي الفضل و النعم، سبحان ذي العزة و الكرم، سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه، سبحان ذي الجلال و الإكرام.
و الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته، و دل كل شيء لعزته، و خضع كل شيء لملكه، و استسلم كل شيء لقدرته.
الحمد لله الذي سكن كل شيء لهيبته و أظهر كل شيء بحكمته، و تصاغر كل شيء لكبريائه.
أحمده و هو المحمود على كل ما قدره و رضاه، و أستعينه استعانة من يعلم أنه لا رب له غيره و إله له سواه، و أستهديه سبيل الذين أنعم عليهم ممن اختار لقبول الحق و ارتضاه. و أشكره و الشكر كفيل بالمزيد من العطايا و أستغفره من الذنوب التي تحول بين القلب و هداه. و أعوذ به من شر نفسي و سيئات أعمالي استعاذة عبد فار إلى ربه بذنوبه و خطاياه. و أعتصم به من الأهواء المردية و البدع المضلة، فما خاب من أصبح به معتصما و بحماه نزيلا.
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده المصطفى و نبيه المرتضى، رسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، أرسله رحمة للعالمين و محجة للسالكين و حجة على العباد أجمعين
فصلى الله عليه و على آله الطيبين الطاهرين و على أصحابه و أتباعه أجمعين.

التفكر و التدبر منهج التوحيد
و في كل شيء آية    تدل على أنه واحد
من كلام الشيخ مصطفى البحياوي بارك الله في عمره
بسـم الله الرحـمن الرحـيم  

إنه لسر عجيب أن يفتتح الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو أمي بالأمر بالقراءة متكررا: اقرأ ثم اقرأ { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسن من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسن ما لم يعلم } في قطيعة مع الجاهلية والجهل، والمفتاح العلم والعلم نور. إن فاتحة الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوان صادق لمقاصد الرسالة كلها الممثلة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الخطة المطلوبة في بناء الإنسان على امتداد الزمان. العلم و المعرفة أولا والقراءة مفتاحهما. لكن القرآن لا يريد منا مطلق القراءة إنما يريدها قراءة ربانية تربي صاحبها وتزكيه وتأخذ به إلى معرفة صافية بالله و برسوله صلى الله عليه وسلم وبدينه ورسالته. وهذا هو السر في الإتيان بوصف الربوبية في الآية { اقرأ باسم ربك } أي اقرأ قراءة بإذنه مؤيدة و مسددة تتوخى الارتقاء بك، اقرأ باسم ربك لتتربى. { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسن من علق } الإشارة للعلق هنا و هو الدم المتجمد الذي منه نتخلق جسدا وصورة، إشارة إلى أن العلم و القراءة هي علقتنا التي نتخلق منها لكمال السيرة. فالله يريد منا وهو الذي خلقنا من علق أن نتعلق بأبواب المعرفة القاصدة لنصل من خلالها إلى كمال السيرة، فيجتمع كمال الصورة إلى كمال السيرة فيجيء الوجه الذي قال الله فيه { صنع الله الذي أتقن كل شيء }. { اقرأ وربك الأكرم} و الإشارة إلى الأكرمية في مقام الدعوة إلى العلم إشارة إلى أنه لاكرامة للإنسان خارج فضاء المعرفة. فالجهل مهانة وذلة وموت، ولن تكون كريما في الناس و لا عند رب الناس ولا كريما مع نفسك إلا إذا فتحت خزائن المعرفة من أبوابها وإلا إذا تعاطيتها بمقدار ما ترتقي بها في سمائها. وإذا تتبعنا نظم السورة الكريمة وجدناها تختتم بقول الله { واسجد واقترب } بدأٌ بالقراءة والعلم وانتهاء بالعبادة والإقتراب: عينان إذا فقدتهما الأمة أدركها العمى وانطمست بصيرتها، عين العلم و عين العبادة المقربة.
معان عالية وأسرار غالية في سورة الإستهلال فاتحة الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون حاضرة وماثلة بين أعيننا ونحن نحيي ذكرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليس إحياء الذكرى طقوس جامدة وصماء لاروح فيها وإنما هو إحياء لهذه المعاني، وإذا ضاعت المعاني وبقيت الأواني انتهى وجود اللإنسان. فالإناء إنما يعتبر بما فيه: وما فيه أنت، روحك وسرك ووصلك واقترابك. اقرأ ثم اقرأ: كن مدمنا على القراءة. عار على أمة مفتاح رسالتها اقرأ أن لا تكون قارئة، عار على أمة أول النازل من نور الله عليها اقرأ أن ترتفع فيها نسبة الأميين و المتخلفين والمنتكسين والبائسين، عار على أمة في صدر أول سورة من وحيها اسجد واقترب أن يكون الساجدون فيها قلة والمتبتلون أقل من القليل. فسجود المقترب دليل على نجاح الوصل بالله والقراءة باسم الله دليل على نجاح في مشروع المعرفة. فاللهم نورنا بنور معرفتك وافتح علينا ببصائر رحمتك.


مما كتب فريد الآنصاري رحمه الله
التدبر غاية إنزال القرآن

لا سبيل إلى معرفة الحقيقة إلا عبر هذا القرآن أولا، ولا يكون ما دونه من طرق المعرفة إلا توابع له وملاحق. فهو متن الرسالة، التي أرسلها رب العالمين إلى الخلق. وما سواه شروح وتفاسير؛ ويا لتعاسة من ضل عن هذا الأصل العلمي العظيم. إذن يضرب في التيه على غير هدى.. قال عز وجل: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(الإسراء:9 -10). وقال مستدركا بقوة على الذين حرفوا وبدلوا وغيروا: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:79). ذلك سبيل الربانية الأوحد، لا سبيل سواه.

ومن أعجب الأوصاف وألطفها، ومن أغرب الأسماء وأروعها؛ التي سمىَّ الله بها كتابه الحكيم، هي: أنه روح! وذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)(الشورى:52ـ53).

والروح له في القرآن خصائص. نذكر منها اثنتين. الأولى: أن جوهره ممتنع الإدراك، وإنما الشأن فيه أن نقول: (إنه من أمر الله)، قال جل جلاله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(الإسراء:85). وسمىَّ القرآنَ هنا أيضا: (رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا).

والثانية: أنه سبب الحياة، وباعثها - بإذن الله - في سائر الأحياء. فبملابسته تحيى الأجساد، وبمفارقته تموت. كما هو منطوق كثير من الأحاديث النبوية. وذلك نحو قوله صلى الله عليه و سلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا، و يؤمر بأربع كلمات: و يقال له ‌:‌ اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح... الحديث)[1]. وقال صلى الله عليه وسلم في وصف الموت: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر)[2] وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا)[3]. فقوله: (شيء فيه الروح) يعنى من الطير وسائر الدواب، فلا يجوز اتخاذه غرضا للرمي بالنبل، أو الرصاص، قصد الاستمتاع واللهو لا لمنفعة الصيد؛ لما فيه من الاعتداء على الروح، وتخريب خلق الله بلا هدف مشروع.

والشاهد عندنا أن الروح هو سبب الحياة. فهي توجد بوجوده، وتنعدم بانعدامه.

وإنما كان القرآن روحا؛ لأنه سبب حياة هذه الأمة، من حيث هي (أمة). وسبب حياة القلوب. فلا يموت قلب خالطت نبضَه آياتُ القرآن الكريم، ولا حياة لقلب خلي منها.

فاقرأ الآية مرة أخرى، وتدبر، ثم حاول الإبصار: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)(الشورى:52ـ53). ذلك محمد بن عبد الله، عليه صلاة الله وسلامه، كان يحاول أن يخرج من ظلمات الجاهلية، إذ لم يقتنع بأفكارها، وضلالاتها؛ فاعتزلها، لكنه لم يجد تفسيرا للغز الذي يغلف هذا الوجود؛ حتى نزل عليه الروح بالروح، أي حتى نزل عليه جبريل بالقرآن من أمر الله؛ فأحياه الله به بعد موات. وأنار بصيرته به؛ فصار من المبصرين، يهدي إلى صراط مستقيم، بمعالم فصلها هذا الكتاب، الذي يصف ما بين السماوات والأرض، ويخبر عن أسرارهما، من بدء الخلق إلى يوم البعث. ويرسم الطريق للإنسان خلال ذلك كله؛ كي يسلك إلى ربه ويتعرف عليه.
فأنى لك يا صاح أن تجد مثله؟

ومن هنا وجب أن تكون خطوتك الأولى، في طريق المعرفة الربانية؛
أن تتعرف على القرآن، بل أن تكتشفه. ولذلك جاء الخطاب القرآني يحمل أمر القراءة للقرآن؛ تلاوةً وترتيلاً، وأمر التعلم للقرآن مدارسةً وتدبرا.

والتدبر هو غاية كل ذلك ونتيجته؛ ولذلك قال عز وجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(سورة ص:29) فجعل غاية الإنزال للقرآن التدبر والتذكر، ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هو يقظة القلب، وعمران الوجدان بالإيمان. فالتدبر هو المنهج القرآني المأمور به لقراءة القرآن العظيم؛ ومن هنا زجره تعالى للناس الذين لا يتدبرونه. قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24)، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)(النساء:82).فما التدبر إذن؟

تَدَبَّرَ الشيء في - اللغة - يَتَدبَّرُه: تتبع دبره، أي نظر إلى أواخره وعواقبه ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأَى في عاقبته ما لم ير في صدره؛ وعَرَفَ الأَمْرَ تَدَبُّراً أَي بأَخَرَةٍ (...) والتَّدْبِيرُ في الأَمر: أَن تنظر إِلى ما تَؤُول إِليه عاقبته. والتَّدَبُّر: التفكر فيه)[4].

فتدبر القرآن وآيات القرآن: هو النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع. وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر - إن كانت متعلقة بالنفس - إلى موقعها من نفسك، وآثارها على قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله على نفسك وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها، باعتبارها مقياسا لوزن نفسك وتقويمها. وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي بوصفاتها.

وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع؛ فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها؟ عند المخالفة وعند الموافقة.. ثم تنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير؟

وهنا تلج إلى باب آخر من أبواب القرآن رديف للتدبر، بل هو منه. ذلك هو: التفكر. إن التفكر غالبا ما يرد مذكورا في القرآن في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في بديع صنعه، كما في قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِم.ْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا.رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(آل عمران:190ـ194) فكل هذه الأدعية العابدة، الحارة، الخاشعة، الباكية؛ إنما هي نابعة عن الإحساس الحاصل للعبد بُعَيد التفكر في خلق الله،
فاقرأ الآيات وتدبر.. تجد أن المؤمن لما يسيح في جنبات الكون الفسيح، يشعر بعظمة الله الواحد القهار، وتأخذه الرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه؛ فيسرع هاربا إلى مساكن رحمته، وجمال غفرانه.

وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له على امتدادات الكون، ويرجع به إلى كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة القرآن؛ يحيل الإنسان على (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون. فيكون كل متدبر للقرآن متفكرا في الكون. فتقرأ - بقراءة القرآن - كلَّ آيات الله المنظورة والمقروءة سواء.
وبذلك كله يتم لك شيء آخر، هو:
الإبصار.

إن التدبر والتفكر كليهما، يعتبران بمثابة الضوء، أو الشعاع المسلط على الأشياء، تماما كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة - في اليوم الصحو - على الموجودات، فتبصرها الأعين الناظرة. فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، والتفكر يكشف حقائق الآيات الكونية، حتى إذا استنارت هذه وتلك؛ أبصرها المتدبرون والمتفكرون. وكانت لهم فيها مشاهدات، لا تكون لغيرهم. ولذلك قال عز وجل: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104). وقال سبحانه:(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر:2).

هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آيةً؛ اقرأ وتدبر ثم أبصر!.. عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل؛ فتكون له متدبرا..!



------
[1] - متفق عليه.

[2] - رواه مسلم

[3] - رواه أحمد والترمذي والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع:6817. نشر المكتب الإسلامي بيروت/ دمشق. ط. الثالثة: 1408هـ/1988.

[4] - لسان العرب، مادة: (دبر).
وكتب رحمه الله
في جمالية التفكر الإيماني
من أسرار هذا الكون و لطائفه أن باب عقيدته هو التفكر.. قال الله عز و جل في مخاطبة الكفار عبر رسوله الكريم: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثم تتفكروا..." سبأ 46 . آية في غاية الجمال و السمو.. و إني أشهد أني مذ ذقتها وجدت أن بها بحرا من الأسرار التربوية لا يعلم مداه إلا الله. و إن لها لذوقا وجدانيا خاصا. أرأيت كيف أن الله تعالى يخاطب الكفار، بالقيام له، و التفرغ لشأنه، قبل الإيمان به؟ و ذلك حتى يمكنهم الوصول إلى حقيقة الإسلام، هذا الدين الذي هم له منكرون.. و قد شرط الله عليهم شرطا في كيفية القيام له: و هو الخلوة به سبحانه . و العدد الوارد في الآية: ( مثنى و فرادى) على حقيقته، إذ ليس هناك في السياق ما يصرفه عن هذه الحقيقة. لكن لماذا التنصيص على الفردانية، او الثنئية بالضبط؟ لماذا كان ذلك شرطا لتوقيع (التفكر) ؟ إنه أمر عجيب..
العقل آلة تلتقط الحقائق، و تعقلها، و لكنها لا تتخذ قرارا.. إنما الذي يتخذ القرار هو القلب بمعناه القرآني الخاص :  "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها؟ " محمد 24. و منه قوله تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها" الأعراف 179. فإذا كان القلب محجوبا بحجب المادة  و الكثرة، عجز عن الوصول إلى ما يعرضه عليه العقل من صور المعقولات.. فلا يتخذ القرار المناسب. و من هنا كان جوهر التفكر في القرآن قلبيا.. و لذلك وجدناه ينتج عنه شعور قلبي هو الخوف، نظرا لرهبة القلب مما يحلله له العقل و يعرضه عليه من صور. و ذلك ما في نحو الآية السابقة من سورة سبأ، إذ قل سبحانه في تتمتها: " ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد". و أظهر منه آية التفكر في آل عمران: " و يتفكرون في خلق السموات و الأرض، رنبا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . فقنا عذاب النار" آل عمران 191 . إنه شعور الوجدان بهول الحقيقة و عظمتها. و لذلك قلت: إن التفكر فعل وجداني في العمق.
و هو لذلك لا يقع للناس إلا آحادا، و إن حكي عنهم بضمير الجماعة، كما يدل عليه أول الآية: " الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات و الآرض". فهذه صور تحيل على الناس و هم في شؤونهم الخاصة، و أفرشتهم، و نومهم و قيامهم. و أغلب ذلك أحوال فردية. و الآية الأولى: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثم تتفكروا.." سبأ 46 ، نص في فردانية فعل التفكر. و لذلك نكتة ستأتي بحول الله. أما الثنائية (مثنى) فهي ملحقة بالمفرد. و إنما يبدأ الجمع في اللغة بالثلاثة. ثم إن التفكر بين إثنين (نجوى) و هي أشبه ما تكون بتحديث الفرد نفسه. أما فائدة ذلك فهي أن التفرغ لله عز و جل في خلوة لا يكدر صفوها عليك أحد من الخلق، يتيح للقلب أن يتفاعل في صفاء مع معطيات الفكر، و يتواجد متلذذا بمواجيد الشعور بمعية الله و حقائق الكون الكبرى. و مثل ذلك لا يحصل في لغط النقاش الجماعي، و ضوضاء الجدل المتعدد.. نعم رفيق النجوى و هو الثاني: (مثنى)، يكون معك على موجدة واحدة في التأمل، وتبادل المشاعر و المواجيد، تماما كما كان الرسول ضلى الله عليه و سلم يخلو لربه فردا أو مع صاحبه أبي بكر الصديق أحيانا، أو غيره من الصحابة الكرام. فإذن تكون أبواب القلب أكثر انفتاحا، لتقبل ما يلقى عليها من واردات الحب و الشوق و المعرفة الربانية.
و مما يزيد الآية دقة فيما نحن فيه، التعبير ب(ثم) التي تفيد الترتيب. فكأنه تعالى جعل شكل التفكر (مثنى و فرادى) هو الكفيل وحده بنجاح عملية التفكر، لذلك قال سبحانه: "ثم ليتفكروا"..
"قل إنما أعظكم بواحدة" فعل واحد لا ثاني له، كفيل بأن يقود الإنسان إلى الحقيقة: التفكر... هل خلوت بنفسك يوما؟ أو ناجيت رفيقا لك في أمر الكون و الحياة و المصير؟.. عندما يمتد الفكر سائحا في أقاضي الكون يضل و يتيه.. و أنى له أن يهتدي في دروب و مسالك ينتهي الخيل و لا تنتهي منافذها؟.. إذن يرجع الفكر منكسرا عاجزا..و إن ذلك لعمري هو الإسلام.. الخضوع للعظمة المطلقة فوق الزمان و المكان، و الإعتراف بالقصور عن الإحاطة، و لا بأي طرف من أطرافها.." ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر و هو حسير"الملك 3-4 . الرجوع إلى الصف الآدمي للانضمام في سلك (العادة الطبيعية)، رجوع في العمق إلى مقام العبودية.. موجدة ليست في حاجة – حينئذ- إلا للإفصاح و التعبير(لا إله إلا الله).
و هنا يكمن جمال الدين: الدفء الحاصل عند الشعور بالانسجام مع سائر الخلق السيار. كل في سربه و فلكه: "تسبح له السماوات السبع و الأرض و من فيهن و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان غفورا حليما" الإسراء 44. هذا التوحيد الكوني في التعبير، بل هذا التناسق الكلي في نفث المواجيد، عبر شتى ألوان العبادة، له ذوق (الأنس) الذي يملأ القلب نشاطا و حبا للحياة الممتدة طولا و عرضا..
التنافس هنا إذا هو في طريق (المحبة). الكل يحب و المحبوب واحد. تلك هي القضية.. إذن أينا يبذل أكثر؟ فهذا مجال  الإفصاح عن مواجيد الذلة لملك القلوب و مالكها. و كلما كان الحب أصدق كان أكثر إذلالا لصاحبه .. و لكنها ذلة اللذة و المتعة العليا، و الشعور بالراحة في سبيل رضى المحبوب.
و ينطلق السباق.. و تلك لذة أخرى لها قصة أخرى...
الله.. هذا المعنى العظيم الذي ننطلق منه لنقر أنه (لا إله إلا الله)..تدخل في ملكوته من باب (التفكر) بوجدان المحبة الكبرى.. و لكن كيف؟
لطالما كنت أقرأ عن رواد الحب الإلهي، فكنت أتعجب كيف يجدون هذه الموجدة، بهذا الشوق كله.. فتفكرت دهرا، فغذا الباب ينفتح بمفتاح (الربوبية): الله هذا السيد العظيم هو الخالق لكل شيء من الجلائل و الدقائق.. و ما أنت أيها العبد في ملك الله العظيم، الممتد بلا حدود، إلا كذرة من البلايين التي لا يحصرها خيال، من الذرات السائرة في متاهات الكون الفسيح.. ألم يكن ممكنا في قدر الله و قدرته تعالى ألا تكون أصلا؟ إنها نعمة الخلق إذن فأعظم بها من نعمة.. لا تحصى حمدا و لا تحاط شكرا، و لو عشت إعمار الخلائق جميعا حامدا شاكرا:" هل اتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا.." الإنسان 1... لمسة (الحياة) هي النعمة الكبرى بعد الخلق.. ألم يكن ممكنا إن تكون جمادا؟ ثُم إنها حياة الروح أكبر هبة إلهية للإنسان.. تأملات تملأ القلب حيرة و عجبا أن يكون بين الناس في ظل هذه الحقائق الرهيبة كافرون.. عجبا ..عجبا.. و لا يملك التفكر في آلاء الله و نعمائه العظمى إلا العجب..
أن تتفكر في جمال الإحسان الرباني: يعني أن تقع أسير أنواره و جلال كماله مؤمنا خاشعا متبتلا.. ذلك هو سر المحبة.. و هو المعراج السري لقافلة المحبين السائرين إلى منازل الحبيب.. قال بديع الزمان النورسي رحمه الله: "مادام ذلك الحكيم المطلق سلطانا ذا جلال، بشهادة جميع إجراءاته الحكيمة و بما يظهره من آثار جليلة.. و ربا رحيما واسع الرحمة بما يبديه من آلاء و إحسانات.. و صانعا بديعا يحب صنعته كثيرا بما يعرضه من مصنوعات بديعة.. و خالقا حكيما يريد إثارة إعجاب ذوي الشعور و جلب استحسانهم، بما ينشره من تزيينات جميلة و صنائع رائعة. فإنه يُِفهم مما أبدعه من جمال يأخذ بالألباب في خلق العالم، أنه يريد إعلام ذوي الشعور من مخلوقاته: ما المقصود من هذه التزيينات؟ و من أين تأتي المخلوقات و إلى أين المصير؟" فهو إذن " يعرف يفسه و يوددها بمخلوقاته- غير المحدودةّ - ذات الزينة و الجمال.. و يوجب الشكر و الحمد له، بنعمه –التي لا تحصى- ذات اللذة و النفاسة.. و يشوق الخلق إلى العبادة نحو ربوبيته، بعبادة تتسم بالحب و الامتنان و الشكر إزاء هذه التربية و الإعاشة العامة ذات الشفقة و الحماية".
فعلا إن الذي يشعر بالنعمة المسداة إليه يجد نفسه مطوقا بحقها من الشكر..و لكنها نعمة أكبر بكثير من أن تحصى أو تحصر.ز فكيف تشكر إذن؟ هنا يمتلك القلب الشعور بالعجز و الذلة و الخضوع التام. وتلك هي (لا إله إلا الله).
الله.. هذا الإسم الجميل كلمة تدل على الحياة العليا و النعمة الكبرى.. منه سبحانه نستمد الكينونة و الحياة. و عطاؤه تعالى لا ينقطع أبدا، و لا يحصى عددا. أن تملأ قلبك بمعرفة الله يعني أنك تملؤه بالحياة.. أن تملأ قلبك بمعرفة الله يعني أنك تملؤه بالحب.. و أن تعبر عن ذلك كله يعني أن تقول: "لا إله إلا الله" أي لا مرغوب و لا مرهوب إلا الله و لا محبوب لا الله، و لا يملك عليك مجامع القلب و الوجدان إلا الله.. هذا السيد الجميل و الملك الجليل و الرب العظيم الرحيم.

رحم الله فريدالأنصاري


مما كتب ابن القيم رحمه الله
قال الله تعالى :"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد
 فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم ، وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى ، وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها وعدم مراعاتها. فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب، فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية، ومرور الايات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورها على من لا بصر له. فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فإنه يراها.
 ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين: أحدهما أن يحضره ويشهده لما يلقى إليه فإن كان غائبا عنه مسافرا في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به، فإذا أحضره و أشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويصغي بكليته إلى مايوعظ به ويرشد إليه. وها هنا ثلاثة أمور أحدها سلامة القلب وصحته وقبوله الثاني إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق الثالث إلقاء السمع وإصغاؤه والإقبال على الذكر. فذكر الله تعالى الأمور الثلاثة في هذه الآية ،قال ابن عطية: القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله والمعنى لمن كان له قلب واع ينتفع به قال وقال الشبلي: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين، وقوله: أو ألقى السمع وهو شهيد معناه صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبته في سمعه فذلك إلقاء له عليها، ومنه قوله:" وألقيت عليك محبة مني " أي أثبتها عليك وقوله وهو شهيد قال بعض المتأولين معناه وهو شاهد مقبل على الأمر غير معرض عنه ولا مفكر في غير ما يسمع، قال وقال قتادة هي إشارة إلى أهل الكتاب فكأنه قال إن هذه العبر لتذكرة لمن له فهم فتدبر الأمر أو لمن سمعها من أهل الكتاب فشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني اسرائيل، قال فشهيد على التأويل الأول من المشاهدة وعلى التأويل الثاني من الشهادة .وقال الزجاج: معنى من كان له قلب من شرف قلبه إلى التفهم ألا ترى أن قوله:" صم بكم عمي " إنهم لم يستمعوا استماع مستفهم مسترشد فجعلوا بمنزلة من لم يسمع، كما قال الشاعر: أصم عما ساءه سميع. ومعنى أو ألقى السمع استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع والعرب تقول: الق إلي سمعك أي استمع مني، وهو شهيد أي قلبه فيما يسمع .وجاء في التفسير أنه يعني به أهل الكتاب الذين عندهم صفة النبي صلى الله عليه و سلم. فالمعنى أو القى السمع وهو شهيد اشاهد أن صفة النبي صلى الله عليه و سلم في كتابه وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة وذكر أن شهيدا فيه بمعنى شاهد أي مخبر. وقال صاحب الكشاف: لمن كان له قلب واع لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له، وإلقاء السمع والإصغاء وهو شهيد أي حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب أو هو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله وهو بعض الشهداء في قوله:" لتكونوا شهداء على الناس" وعن قتادة: وهو شاهد على صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده.
 فلم يختلف في أن المراد بالقلب القلب الواعي وأن المراد بإلقاء السمع إصغاؤه وإقباله على المذكر وتفريغ سمعه له. واختلف في الشهيد على أربعة أقوال أحدها أنه من المشاهدة وهي الحضور وهذا أصح الأقوال ولا يليق بالآية غيره، الثاني أنه شهيد من الشهادة وفيه على هذه ثلاثة أقوال، أحدها أنه شاهد على صحة ما معه من الإيقان، الثاني أنه شاهد من الشهداء على الناس يوم القيامة، الثالث أنه شهادة من الله عنده على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم بما علمه من الكتب المنزلة. والصواب القول الأول فإن قوله وهو شهيد جملة حالية والواو فيها واو الحال أي ألقى السمع في هذه الحال وهذا يقتضى أن يكون حال إلقائه السمع شهيدا وهذا هو من المشاهدة والحضور.وأيضا فإن المشهود به محذوف ولا دلالة في اللفظ عليه. فلو كان المراد به وهو شاهد بكذا لذكر المشهود به، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه. وهذا بخلاف ما إذا جعل من الشهود وهو الحضور فإنه لايقتضى مفعولا مشهودا به ليتم الكلام بذكره وحده.
 وأيضا فإن الآية تضمنت تقسيما وترديدا بين قسمين أحدهما من كان له قلب والثاني من ألقى السمع وحضر بقلبه ولم يغب فهو حاضر القلب شاهده لا غائبه وهذا والله أعلم سر الإتيان بأو دون الواو لأن المنتفع بالآيات من الناس نوعان أحدهما ذو القلب الواعي الزكي الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه ولا يحتاج إلى ان يستجلب قلبه ويحضره ويجمعه من مواضع شتاته بل قلبه واع زكي قابل للهدى غير معرض عنه، فهذا لا يحتاج إلا إلى وصول الهدى اليه فقط لكمال استعداه وصحة فطرته. فإذا جاءه الهدى سارع قلبه إلى قبوله كأنه كان مكتوبا فيه/ فهو قد أدركه مجملا ثم جاء الهدى بتفصيل ما شهد قلبه بصحته مجملا وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل كما هي حال الصديق الأكبر رضي الله عنه.
 والنوع الثاني من ليس له هذا الإستعداد والقبول فإذا ورد عليه الهدى أصغى إليه بسمعه وأحضر قلبه وجمع فكرته عليه وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله وهذه طريقة أكثر المستجيبين ولهم نوع ضرب الامثال وإقامة الحجج وذكر المعارضات والأجوبة عنها. والأولون هم الذين يدعون بالحكمة وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة. فهؤلاء نوعا المستجيبين.
 وأما المعارضون المدعون للحق فنوعان: نوع يدعون بالمجادلة بالتي هي أحسن فإن استجابوا وإلا فالمجالدة فهؤلاء لا بد لهم من جدال أو جلاد. ومن تأمل دعوة القرآن وجدها شاملة لهؤلاء الأقسام متناولة لها كلها كما قال تعالى:" ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن" فهؤلاء المدعوون بالكلام وأما اهل الجلاد فهم الذين أمر الله قتالهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله.
إن الله سبحانه نفى التسوية بين العالم وغيره كما نفى التسوية بين الخبيث والطيب وبين الأعمى والبصير وبين النور والظلمة وبين الظل والحرور وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار وبين الأبكم العاجز الذي لا يقدر على شيء ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وبين المؤمنين والكفار وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض وبين المتقين والفجار فهذه عشرة مواضع في القرآن نفى فيها التسوية بين هؤلاء الاصناف وهذا يدل على ان منزلة العالم من الجاهل كمنزلة النور من الظلمة والظل من الحرور والطيب من الخبيث ومنزلة كل واحد من هذه الاصناف مع مقابله وهذا كاف في شرف العلم وأهله بل إذا تأملت هذه الأصناف كلها وجدت نفي التسوية بينها راجعا إلى العلم وموجبه فيه وقع التفضيل وانتفت المساواة.

فصل
 إذا عرف هذا فالفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة
 ومثال ذلك إذا أحضر في قلبه العاجلة وعيشها ونعيمها وما يقترن به من الآفات وانقطاعه وزواله، ثم أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها ولذته ودوامه وفضله على نعيم الدنيا وجزم بهذين العلمين، أثمر له ذلك علما ثالثا وهو أن الآخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولى عند كل عاقل بإيثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة. ثم له في معرفة الآخرة حالتان إحداهما أن يكون قد سمع ذلك من غيره من غير أن يباشر قلبه برد اليقين به ولم يفض قلبه إلى مكافحة حقيقة الآخرة وهذا حال أكثر الناس، فيتجاذبه داعيان: أحدهما داعي العاجلة وإيثارها وهو أقوى الداعيين عنده لأنه مشاهد له محسوس وداعي الآخرة وهو أضعف الداعيين عنده لأنه داع عن سماع لم يباشر قلبه اليقين به ولا كافحه حقيقته العلمية فإذا ترك العاجلة للآخرة تريه نفسه بأنه قد ترك معلوما لمظنون أومتحققا لموهوم. فلسان الحال ينادي عليه: لا ادع ذرة منقودة لدرة موعودة وهذه الآفة هي التي منعت النفوس من الاستعداد للآخرة وأن يسعى لها سعيها. وهي من ضعف العلم بها وتيقنها وإلا فمع الجزم التام الذي لا يخالج القلب فيه شك لا يقع التهاون بها وعدم الرغبة فيها. ولهذا لو قدم لرجل طعام في غاية الطيب واللذة وهو شديد الحاجة اليه ثم قيل له إنه مسموم فإنه لا يقدم عليه لعلمه بأن سوء ما تجني عاقبة تناوله تربو في المضرة على لذة أكله فما بال الإيمان بالآخرة لا يكون في قلبه بهذه المنزلة ماذاك الا لضعف شجرة العلم والإيمان بها في القلب وعدم استقرارها فيه وكذلك اذا كان سائرا في طريق فقيل له إن بها قطاعا ولصوصا يقتلون من وجدوه ويأخذون متاعه فإنه لا يسلكها إلا على أحد وجهين: إما أن لا يصدق المخبر وإما أن يثق من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم ،وإلا فمع تصديقه للخبر تصديقا لا يتمارى فيه وعلمه من نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم فإنه لا يسلكها. ولو حصل له هذان العلمان فيما يرتكبه من إيثار الدنيا وشهواتها لم يقدم على ذلك فعلم أن إيثاره للعاجلة وترك استعداده للآخرة لا يكون قط مع كمال تصديقه وإيمانه أبدا
 الحالة الثانية أن يتيقن ويجزم جزما لا شك فيه بأن له دارا غير هذه الدار ومعادا له خلق وأن هذه الدار طريق إلى ذلك المعاد ومنزل من منازل السائرين إليه، ويعلم مع ذلك أنها باقية ونعيمها وعذابها لا يزول ولا نسبة لهذا النعيم والعذاب العاجل اليه إلا كما يدخل الرجل أصبعه في اليم ثم ينزعها، فالذي تعلق بها منه هو كالدنيا بالنسبة الى الآخرة ،فيثمر له هذا العلم إيثار الآخرة وطلبها والاستعداد التام لها وأن يسعى لها سعيها.
وهذا يسعى تفكرا وتذكرا ونظرا وتأملا واعتبارا وتدبرا واستبصارا وهذه معان متقاربة تجتمع في شيء وتتفرق في آخر ويسمى تفكرا لأنه استعمال الفكرة في ذلك واحضاره عنده، ويسمى تذكرا لانه احضار للعلم الذي يجب مراعاته بعد ذهوله وغيبته عنه ومنه قوله تعالى:" ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " ويسمى نظرا لأنه التفات بالقلب إلى المنظور فيه، ويسمى تأملا لانه مراجعة للنظر كرة بعد كرة حتى يتجلى له وينكشف لقلبه، ويسمى اعتبارا وهو افتعال من العبور لأنه يعبر منه إلى غيره فيعبر من ذلك الذي قد فكر فيه إلى معرفة ثالثة وهي المقصود من الإعتبار ولهذا يسمى عبرة وهي على بناء الحالات كالجلسة والركبة والقتلة إيذانا بأن هذا العلم والمعرفة قد صار حالا لصاحبه يعبر منه الى المقصود به وقال الله تعالى:" ان في ذلك لعبرة لمن يخشى " وقال:" إن في ذلك لعبرة لاولي الابصارويسمى تدبرا لأنه نظر في أدبار الامور وهي أواخرها وعواقبها ومنه تدبر القول وقال تعالى:" افلم يدبروا القول افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" . وتدبر الكلام أن ينظر في اوله وآخره ثم يعيد نظره مرة بعد مرة ولهذا جاء على بناء التفعل كالتجرع والتفهم والتبين. وسمى استبصارا وهو استفعال من التبصر وهو تبين الأمر وانكشافه وتجليه للبصيرة
 وكل من التذكر والتفكر له فائدة غير فائدة الآخر، فالتذكر يفيد تكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه ويثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة، والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب فالتفكر يحصله والتذكر يحفظه. ولهذا قال الحسن: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة. فالتفكر والتذكر بذار العلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه كما قال بعض السلف: ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها فالمذاكرة بها لقاح العقل. فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر، فإنه لا بد من تفكر وعلم يكون نتيجته الفكر وحال يحدث للقلب من ذلك العلم فإن كل من عمل شيئا من المحبوب أو المكروه لا بد أن يبقى لقلبه حالة وينصبغ بصبغة من علمه وتلك الحال توجب له إرادة وتلك الإرادة توجب وقوع العمل.
 فها هنا خمسة أمور الفكر وثمرته العلم وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب وثمرة ذلك الإرادة وثمرتها العمل. فالفكر إذا هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا يكشف لك عن فضل التفكر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له حتى قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة. فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة ومن المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور.
 وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حب الافكار الردية فيتولد منه الارادات والعزوم فيتولد منها العمل فإذا صادف ارض القلب مشغولة ببذر الافكار النافعة فيما خلق له وفيما أمر به وفيم هيء له واعد له من النعيم المقيم او العذاب الاليم لم يجد لبذره موضعا وهذا كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا فارغا فتمكنا
 فإن قيل: فقد ذكرتم الفكر ومنفعته وعظم تأثيره في الخير والشر فما متعلقه الذي ينبغي أن يوقع عليه ويجرى فيه فإنه لا يتم المقصود منه إلا بذكر متعلقه الذي يقع الفكر فيه وإلا ففكر بغير متفكر فيه محال؟
 قيل: مجرى الفكر ومتعلقه أربعة أمور:
 أحدها غاية محبوبة مرادة الحصول
 الثاني طريق موصلة إلى تلك الغاية
 الثالث مضرة مطلوبة الإعدام مكروهة الحصول
 الرابع الطريق المفضي اليها الموقع عليها
 فلا تتجاوز أفكار العقلاء هذه الأمور الأربعة وأي فكر تخطاها فهو من الأفكار الردية والخيالات والأماني الباطلة كما يتخيل الفقير المعدم نفسه من أغنى البشر وهو يأخذ ويعطي وينعم ويحرم، وكما يتخيل العاجز نفسه من أقوى الملوك وهو يتصرف في البلاد والرعية، ونظير ذلك من أفكار القلوب الباطولية التي من جنس أفكار السكران والمحشوش والضعيف العقل.
 فالأفكار الردية هي قوت الأنفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة فإنها قد قنعت بالخيال ورضيت بالمحال ثم لا تزال هذه الأفكار تقوى بها وتتزايد حتى توجب لها آثارا ردية و وساوس وأمراضا بطيئة الزوال.
 وإذا كان الفكر النافع لا يخرج عن الأقسام الاربعة التي ذكرناها، فله أيضا محلان ومنزلان: أحدهما هذه الدار والآخر دار القرار.
 فأبناء الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق عمروا بيوت أفكارهم بتلك الأقسام الاربعة في هذه الدار فأثمرت لهم أفكارهم فيها ما أثمرت، ولكن إذا حقت الحقائق وبطلت الدنيا وقامت الآخرة تبين الرابح من المغبون وخسر هنالك المبطلون. وأبناء الاخرة الذين خلقوا لها عمروا بيوت أفكارهم على تلك الأقسام الأربعة فيها.
 ونحن نفصل ذلك بعون الله وفضله فنقول كل طالب لشيء فهو محب له مؤثر لقربه ساع في طريق تحصيله متوصل إليه بجهده .وهذا يوجب له تعلق أفكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته التي يحب لأجلها، وتعلقها بما يناله به من الخير والفرح والسرور، ففكره في حال محبوبه دائر بين الجمال والإجمال والحسن والإحسان. فكلما قويت محبته ازداد هذا الفكر وقوى وتضاعف حتى يستغرق أجزاء القلب فلا يبقى فيه فضل لغيره بل يصير بين الناس بقالبه وقلبه كله في حضرة محبوبه.
 فإن كان هذا المحبوب هو المحبوب الحق الذي لا تنبغي المحبة إلا له ولا يحب غيره إلا تبعا لمحبته فهو أسعد المحبين به وقد وضع الحب موضعه وتهيأت نفسه لكمالها الذي خلقت له والذي لا كمال لها بدونه بوجه. وإن كانت تلك المحبة لغيره من المحبوبات الباطلة المتلاشية التي تفنى وتبقى حزازات القلوب بها على حالها، فقد وضع المحبة في غير موضعها وظلم نفسه أعظم ظلم وأقبحه وتهيأت بذلك نفسه لغاية شقائها وألمها. وإذا عُرف هذا عُرف أن تعلق المحبة بغير الإله الحق هو عين شقاء العبد وخسرانه فأفكاره المتعلقة بها كلها باطلة وهي مضرة عليه في حياته وبعد موته.
والمحب الذي قد ملك المحبوب أفكار قلبه لا يخرج فكره عن تعلقه بمحبوبه أو بنفسه، ثم فكره في محبوبه لا يخرج عن حالتين إحداهما فكرته في جماله وأوصافه والثانية فكرته في أفعاله وإحسانه وبره ولطفه الدالة على كمال صفاته. وإن تعلق فكره بنفسه لم يخرج أيضا عن حالتين: إما أن يفكر في أوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها ويسقطه من عينه، فهو دائما يتوقع بفكره عليها ليتجنبها ويبعد منها، والثانية أن يفكر في الصفات والأخلاق والأفعال التي تقربه منه وتحببه إليه حتى يتصف بها. فالفكرتان الأولتان توجب له زيادة محبته وقوتها وتضاعفها والفكرتان الأخرتان توجب محبة محبوبه له وإقباله عليه وقربه منه وعطفه عليه وإيثاره على غيره. فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة: فالفكرة الأولى والثانية تتعلق بعلم التوحيد وصفات الاله المعبود سبحانه وأفعاله والثالثة والرابعة تتعلق بالطريق الموصلة اليها وقواطعها وآفاتها وما يمنع من السير فيها إليه.
فتفكره في صفات نفسه يميز له المحبوب لربه منها من المكروه له وهذه الفكرة توجب ثلاثة أمور:
أحدها أن هذا الوصف هل هو مكروه مبغوض لله أم لا؟
 الثاني هل العبد متصف به أم لا؟
 والثالث إذا كان متصفا به فما طريق دفعه والعافية منه؟ وان لم يكن متصفا به فما طريق حفظ الصحة بوقائه على العافية والاحتراز منه؟
 وكذلك الفكرة في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثة أمور:
أحدها أن هذه الصفة هل هي محبوبة لله مرضية له أم لا؟
 الثاني هل العبد متصف بها أم لا؟
 الثالث أنه إذا كان متصفا بها فما طريق حفظها ودوامها؟ وإن لم يكن متصفا بها فما طريق اجتلائها والتخلق بها؟ ثم فكرته في الأفعال على هذين الوجهين أيضا سواء
ومجاري هذه الأفكار ومواقعها كثيرة جدا لاتكاد تنضبط وإنما يحصرها ستة أجناس: الطاعات الظاهرة والباطنة والمعاصي الظاهرة والباطنة والصفات والاخلاق الحميدة والاخلاق والصفات الذميمة فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسه وأفعالها.
 وأما الفكرة في صفات المعبود وأفعاله وأحكامه فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر والتوحيد والشرك والإقرار والتعطيل وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام.
 ومجاري هذه الفكرة تدبر كلامه وما تعرف به سبحانه إلى عباده على السنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه وتدبر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصها على عباده وأشهدهم إياها ليستدلوا بها على أنه إلاههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له ويستدلوا بها على أنه على كل شيء قدير وأنه بكل شيء عليم وأنه شديد العقاب وأنه غفور رحيم وأنه العزيز الحكيم وأنه الفعال لما يريد وأنه الذي وسع كل شيء رحمة وعلما، وأن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك وهذه الثمرة لا سبيل الى تحصيلها إلا بتدبر كلامه والنظر في آثار أفعاله.
 وإلى هذين الأصلين ندب عباده في القرآن فقال في الأصل الأول:" افلا يتدبرون القرآن " " افلم يدبروا القول" " كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته" " إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون" . وقال في الأصل الثاني:" قل انظروا ماذا في السموات والارض" " ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض" " ان في السموات والارض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون" " او لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم" " قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل" " ومن آياته ان خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون" " ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون.. الى قوله ..ومن آياته ان تقوم السماء والارض بامره" .
 ونوع سبحانه الآيات في هذه السور فجعل خلق السموات والأرض واختلاف لغات الأمم وألوانهم آيات للعالمين كلهم لإشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته وجعل خلق الأزواج التي تسكن إليها الرجال وإلقاء المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون، فإن سكون الرجل إلى امرأته وما يكون بينهما من المودة والتعاطف والتراحم أمر باطن مشهود بعين الفكرة والبصيرة فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك دله فكره على أنه الإله الحق المبين الذي أقرت الفطر بربوبيته وإلاهيته وحكمته ورحمته. وجعل المنام بالليل والنهار للتصرف في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون وهو سمع الفهم وتدبر هذه الايات وارتباطها بما جعلت آية له مما اخبرت به الرسل من حياة العباد بعد موتهم وقيامهم من قبورهم كما أحياهم سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرف في معاشهم. فهذه الآية إنما ينتفع بها من سمع ما جاءت به الرسل وأصغى اليه واستدل بهذه الآية عليه.
 وجعل إراءتهم البرق وإنزال الماء من السماء وإحياء الارض به آيات لقوم يعقلون فإن هذه أمور مرتبة للابصار مشاهدة بالحس فإذا نظر فيها ببصر قلبه وهو عقله استدل بها على وجود الرب تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته و إمكان ما أخبر به من حياة الخلائق بعد موتهم كما أحيا هذه الأرض بعد موتها. وهذه أمور لاتدرك إلا ببصر القلب وهو العقل فإن الحس دل على الآية والعقل دل على ما جعلت له آية فذكر سبحانه الآية المشهودة بالبصر والمدلول عليه المشهود بالعقل فقال:" ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحي به الارض بعد موتها إن في ذلك لايات لقوم يعقلون "، فتبارك الذي جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء لما في الصدور.
 وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين. وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن. وهذه كانت عادة السلف يردد احدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله:" إن تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك انت العزيز الحكيم ". فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب ولهذا قال ابن مسعود :لاتهذوا القرآن هذٌ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب لا يكن هم أحدكم آخر السورة. وروى أبو ايوب عن أبي جمرة قال قلت لابن عباس إني سريع القراءة إني اقرا القرآن في ثلاث قال: لإن اقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن اقرأ القرآن كما تقرأ.
 والتفكر في القرآن نوعان:
 تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه
 وتفكر في معاني ما دعا عباده الى التفكر فيه
فالاول تفكر في الدليل القرآني والثاني تفكر في الدليل العياني
الاول ففكر في آياته المسموعة
والثاني تفكر في آياته المشهودة
ولهذا انزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه
 قال الحسن البصري: انزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا
فصل
و إذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه. فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته.
 ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه يستدل بها على غيرها: فمن ذلك خلق الإنسان وقد ندب سبحانه إلى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى فلينظر الانسان مم خلق وقوله تعالى وفي انفسكم افلا تبصرون وقال تعالى يايها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وقال تعالى ايحسب الانسان ان يترك سدى الم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والانثى اليس ذلك بقادر على ان يحيى الموتى وقال تعالى الم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين الى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون وقال او لم ير الانسان انا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقال ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين .وهذا كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره واقرب شيء الى الانسان نفسه وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الاعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال الله تعالى قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم اماته فاقبره ثم إذا شاء انشره فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا لنتكلم بها فقط ولا لمجرد تعريفنا بذلك بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب وإليه جرى ذلك الحديث. فانظر الآن الى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وانتنت كيف استخرجها رب الارباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الإنقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الإجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده ولا برد بحمده ولا عارض يصل اليه ولا آفة تتسلط عليه، ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين وبين ذلك ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها وهي محفوظة به، وكيف صورها فأحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر
المنافذ، ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤسهما بالأصابع ثم قسم الأصابع بالأنامل، و ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه. ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن وعمادا له وكيف قدرها ربه وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحنى والمستدير والدقيق والعريض والمصمت والمجوف، وكيف ركب بعضها في بعض فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الانثى ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط،وكيف اختلفت اشكالها باختلاف منافعها كالأضراس فإنها لما كانت آلة للطحن جعلت عريضة ولما كانت الأسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة .ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظما واحدا بل عظاما متعددة وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه، وكيف شد أسر تلك المفاصل والأعضاء وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات أنبتها من أحد طرفي العظم وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط له ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها، فإذا أراد العبد أن يحرك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه.
 وتأمل كيفية خلق الرأس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الإدراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وجعل حاسة البصر في مقدمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن. وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أو زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الإبصار. ثم أركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا وهو إنسان العين بقدر العدسة يبصر به ما بين المشرق والمغرب والأرض والسماء. وجعله من العين بمنزلة القلب من الأعضاء فهو ملكها وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له وحجاب وحراس . فتبارك الله أحسن الخالقين فانظر كيف حسن شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما ثم جملهما بالأجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذا والغبار ويكنانهما من البارد المؤذي والحار المؤذي ،ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالا وزينة ولمنافع أخر وراء الجمال والزينة، ثم أودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب وقد أودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السموات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها.
 وشق له السمع وخلق الأذن أحسن خلقة و أبلغها في حصول المقصود منها، فجعلها مجوفة كالصدفة لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصماخ، وليحس بدبيب الحيوان فيها فيبادر إلى إخراجه، وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدته ثم تؤديه إلى الصماخ .ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه، وفيه أيضا حكم غير ذلك.
 ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه أن جعل ماء الأذن مرا في غاية المرارة فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا إلى باطن الاذن بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه. وجعل ماء العينين ملحا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا .وجعل ماء الفم عذبا حلوا ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته كما أن من عرض لفمه المرارة استمر طعم الاشياء التي ليست بمرة كما قيل :
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه وفتح فيه المنخرين وحجز بينهما بحاجز وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة وليستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب فيتروح به ويتغذى به. ثم لم يجعل في داخله من الإعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها ويقطع مجراها. وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ فتجتمع فيه ثم تخرج منه. واقتضت حكمته أن جعل اعلاه أدق من أسفله لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسهولة، ولأنه يأخذ من الهواء ملأه ثم يتصاعد في مجراه قليلا حتى يصل إلى القلب وصولا لا يضره ولا يزعجه. ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة فإنه لما كان قصبة ومجرى ساترا لما يتحدر فيه من فضلات الرأس ومجرى النفس الصاعد منه جعل في وسطه حاجزا لئلا يفسد بما يجرى فيه فيمنع نشقه للنفس بل إما ان تعتمد الفضلات نازلة من أحد المنفذين في الغالب فيبقى الآخر للتنفس ،وإما ان يجرى فيهما فينقسم فلا ينسد الأنف جملة بل يبقى فيه مدخل للتنفس. وأيضا فإنه لما كان عضوا واحدا وحاسة واحدة ولم يكن عضوين وحاستين كالأذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما فإنه ربما أصيبت إحداهما أو عرضت لها آفة تمنعها من كمالها فتكون الأخرى سالمة فلا تتعطل منفعة هذا الحس جملة،وكان وجود أنفين في الوجه شيئا ظاهرا فنصب فيه أنفا واحدا وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجري مجرى تعدد العينين والأذنين في المنفعة وهو واحد فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين...
ذلك صنع الرب الحكيم
 وتقدير العزيز العليم
 في قطرة ماء مهين
 فويل للمكذبين وبعدا للجاحدين
 ومن عجائب خلقه أنه جعل في الرأس ثلاث خزائن نافذا بعضها إلى بعض: خزانة في مقدمه وخزانة في وسطه وخزانة في آخره ،وأودع تلك الخزائن من أسراره ما أودعها من الذكر والفكر والتعقل.
 ومن عجائب خلقه ما فيه من الأمور الباطنة التي لا تشاهد كالقلب والكبد والطحال والرئة والأمعاء والمثانة وسائر ما في بطنه من الآلات العجيبة والقوى المتعددة المختلفة المنافع فأما القلب فهو الملك المستعمل لجميع آلات البدن والمستخدم لها فهو محفوف بها محشود مخدوم مستقر في الوسط وهو أشرف أعضاء البدن وبه قوام الحياة وهو منبع الروح الحيواني والحرارة الغريزية وهو معدن العقل والعلم والحلم والشجاعة والكرم والصبر والاحتمال والحب والارادة والرضا والغضب وسائر صفات الكمال.
 فجميع الاعضاء الظاهرة والباطنة وقواها إنما هي جند من أجناد القلب فإن العين طليعته ورائده الذي يكشف له المرئيات فإن رأت شيئا أدته اليه. ولشدة الإرتباط الذي بينها وبينه إذا استقر فيه شيء ظهر فيها فهي مرآته المترجمة للناظر ما فيه، كما أن اللسان ترجمانه المؤدي للسمع ما فيه، ولهذا كثيرا ما يقرن سبحانه في كتابه بين هذه الثلاث كقوله: إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا وقوله وجعلنا لهم سمعا وابصارا وأفئدة وقوله صم بكم عمي وقد تقدم ذلك. وكذلك يقرن بين القلب والبصر كقوله ونقلب افئدتهم وابصارهم وقوله في حق رسوله محمد صلى الله عليه و سلم ما كذب الفؤاد وما رأى ثم قال ما زاغ البصر وما طغى وكذلك الأذن هي رسوله المؤدى اليه وكذلك اللسان ترجمانه وبالجملة فسائر الاعضاء خدمه وجنوده وقال النبي صلى الله عليه و سلم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب وقال ابو هريرة: القلب ملك والاعضاء جنوده فان طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده
ثم إنه سبحانه أمسك السموات مع عظمها وعظم ما فيها وثبتها من غير علاقة من فوقها ولا عمد من تحتها: الله الذي خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الارض رواسي ان تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فاروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين
...






 


فصل
والنظر في هذه الآيات وأمثالها نوعان:
 نظر إليها بالبصر الظاهر فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود بالأمر. الثاني أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين وإعزاز قوم وإذلال آخرين و إسعاد قوم وشقاوة آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل ، وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها من جبر كسر وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة لملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عان لعزته فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد. فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه.. فياله من سفر ما أبركه وأروحه وأعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته.. سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمته العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب ..



مما جاء في رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله

الكلمة الثامنة عشرة
[ لهذه الكلمة مقامان . ولم يكتب بعدُ المقام  الثاني. والمقام الأول عبارة عن ثلاث نقاط].
النقطة الاولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
( لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبّون ان يُحمَدوا بما لم يفعَلوا، فلا تحسبنّهم بمفازةٍ من العذاب ولهم عذابٌ أليمٌ ) (آل عمران:  188)


لطمةُ تأديب لنفسي الأمارة بالسوء!
يا نفسي المغرمة بالفخر، المعجبة بالشهرة، الهائمة وراء المدح والثناء!
يا نفسي الغويّة!
إن كانت بذيرة التين التي هي منشأ ألوف الثمرات، والساق النحيفة الصلبة التي تعلقت بها مئات العناقيد.. إن كانت هذه الثمرات والعناقيد من عمل تلك البذيرة والساق ومن مهارتهـما لزم كل من يستفيد من تلـك النتائج أن يبدي المدح ويظهر الثناء لهما! أقول: إن كانت هذه الدعوى حقاً، فلربما يكون لكِِ - يا نفسي حق أيضاً في الفخر والغرور لما حُمّلتِ من النعم.
بينما أنتِ لا تستحقين إلاّ الذم، لأنك لستِ كتلك البذيرة ولا كتلك الساق،
وذلك لما تحملين من جزء إختياري. فتنتقصين بفخركِ وغروركِ من قيمة تلك النعم وتبخسين حقها، وتبطلينها بكفرانك النعم، وتغتصبينها بالتملك.
فليس لكِ الفخر، بل الشكر. ولا تليق بكِ الشهرة، بل التواضع والحياء. وما عليكِ إلا الإستغفار، وملازمة الندم، لا المدح، فليس كمالك في الأنانيةِ، بل في الإستهداء.
نعم! يا نفسي! أنتِ في  جسمي تشبهين الطبيعة في العالم، فأنتما (النفس والطبيعة) قد خُلقتما قابلين للخير، مرجعيَن للشر. أي أنتما لستما الفاعل ولا المصدر، بل المنفعل ومحل الفعل، إلاّ ان لكما تأثيراً واحداً فقط وهو تسببكما في الشر، عند عدم قبولكما الخير الوارد من الخير المطلق قبولاً حسناً.
ثم أنكما قد خُلقتما ستارين، كي تُسند إليكما المفاسد والقبائح الظاهرية التي لا يُشاهد جمالُها، لتكونا وسيلتين لتنزيه الذات الإلهية الجليلة. ولكنكما قد لبستما صورة تخالف وظيفتكما الفطرية، إذ تقلبان الخير إلى شر لإفتقاركما إلى القابليات، فكأنكما تشاركان خالقكما في الفعل!
فالذي يعبد النفس ويعبد الطبيعة إذاً في منتهى الحماقة ومنتهى الظلم.
فيا نفسي!
لا تقولي: إنني مظهر الجمال، فالذي ينال الجمال يكون جميلاً.. كلا، إنكِ لم تتمثلي الجمال تمثلاً تاماً، فلا تكونين مظهراً له بل ممراً إليه.
ولا تقولي ايضاً:
إنني قد اُنتُخبتُ من دون الناس كلهم، وهذه الثمرات إنما تظهر بوساطتي، بمعنى أن لي فضلاً ومزيّة! كلا.. وحاشَ للّه.. بل قد اُعطيتِ تلك الثمرات لأنكِ أحوج الناس إليها، واكثرهم إفلاساً وأكثرهم تألماً.
النقطة الثانية
نوضح سرا من أسرار الآية الكريمة: " أحسن كل شيء خلقه" السجدة8 .
نعم،إن كل شيء في الوجود،بل حتى ما يبدو أنه أقبح شيء، فيه جهة حسن حقيقية، فما من شئ في الكون، وما من حادث يقع فيه إلاّ وهو جميل بذاته، أو جميل بغيره، أي جميل بنتائجه التي يفضي اليها..
فهناك من الحوادث التي يبدو في ظاهر أمرها قبيحاً مضطرباً ومشوشاً، إلاّ أنَّ تحت ذلك الستار الظاهري أنواعاً من جمال رائق، وأنماطاً من نظم دقيقة.
فتحت حجاب الطين والغبار والعواصف والأمطار الغزيرة في الربيع تختبئ ابتسامات الأزهار الزاهية بروعتها، وتحتجب رشاقة النباتات الهيفاء الساحرة الجميلة..
وفي ثنايا العواصف الخريفية المدمرة المكتسحة للأشجار والنباتات، والهازة للأوراق الخضراء من فوق الأفنان، حاملةً نذر البين، وعازفةً لحن الشجن والموت والأندثار، هناك بشارة الإنطلاق من أسر العمل لملايين الحشرات الرقيقة الضعيفة التي تتفتح للحياة في أوان تفتح الأزهار، فتحافظ عليها من قَرّ الشتاء وضغوط طقسه، فضلاً عن أن أنواء الشتاء القاسية الحزينة تهيء الأرض استعداداً لمقدم الربيع بمواكبه الجميلة الرائعة.
نعم! إن هناك تفتحاً لأزهار معنوية كثيرة تختبئ تحت ستار عصف العواصف إذا عصفت وزلزلة الأرض إذا تزلزلت، وانتشار الأمراض والأوبئة إذا انتشرت.
فبذور القابليات، ونوى الإستعدادات الكامنة - التي لم تستنبت بعدُ - تتسنبل وتتجمل نتيجة حوادث تبدو قبيحة في ظاهر شأنها، حتى كأن التقلبات العامة، والتحولات الكلية في الوجود إن هي الاّ أمطارٌ معنوية تنزل على تلك البذور لتستنبتها.
بَيْدَ أن الإنسان المفتون بالمظاهر والمتشبث بها والذي لا ينظر إلى الأمور والأحداث إلاّ من خلال أنانيته ومصلحته بالذات، تراه تتوجه أنظارُه إلى ظاهر الأمور، وتنحصر فيها، فيحكم عليها بالقبح!..
وحيث أنه يزن كل شيء بحسب نتائجه المتوجهة إليه فحسب تراه يحكم عليه بالشر! علماً أن الغاية من الأشياء إنْ كانت المتوجهة منها إلى الانسان واحدةً، فالمتوجهة منها إلى أسماء صانعها الجليل تعدُّ بالألوف. فمثلاً:
الأشجار والأعشاب ذات الأشواك التي تدمي يد الانسان الممتدة إليها يتضايق منها الانسان ويراها شيئاً ضاراً لا جدوى منه، بينما هي لتلك الأشجار والأعشاب في منتهى الأهمية حيث تحرسها وتحفظها مِمّنْ يريد مسَّها بسوء.
ومثل:انقضاض العقاب على العصافير والطيور الضعيفة يبدو منافياً للرحمة، والحال أن انكشاف قابليات تلك الطيور الضعيفة وتحفيزها للظهور لا يتحقق إلاّ اذا أحسَّت بالخطر المحدق بها، وشعرت بقدرة الطيور الجارحة على التسلّط عليها..
ومثل:أن هطول الثلوج الذي يغمر الأشياء في فصل الشتاء ربما يثير بعض الضيق لدى الإنسان، لأنه يحرمه من لذة الدفء ومناظر الخضرة، بينما تختفي في قلب هذا الجليد غايات دافئة جداً ونتائج حلوة يعجز الإنسان عن وصفها.
ثم ان الانسان من حيث نظره القاصر يحكم على كل شئ بوجهه المتوجه إلى نفسه، لذا يظن أن كثيراً من الأمور التي هي ضمن دائرة الآداب المحضة أنها مجافية لها، خارجة عنها... فالحديث عن عضو تناسل الإنسان - مثلا-  مخجل فيما يتبادله من أحاديث مع الآخرين. فهذا الخجل منحصر في وجهه المتوجه للإنسان، إلاّ أن أوجهه الأخرى، أي من حيث الخلقة ومن حيث الإتقان ومن حيث الغايات التي وجد لأجلها، موضع إعجاب وتدبر.. فكلُّ من هذه الأوجه التي فطر عليها إنما هي وجه جميل من أوجه الحكمة، واذا هي - بهذا المنظار-  محض أدب لا يخدش الحديث عنها الذوق والحياء..
حتى أن القرآن الكريم - الذي هو منبع الأدب الخالص -  يضم بين سوره تعابير تشير إشارات في غاية اللطف والجمال إلى هذه الوجوه الحكيمة والستائر اللطيفة، فما نراه قبحاً في بعض المخلوقات، والآلام والأحزان التي تخلفها بعض الأحداث والوقائع اليومية لا تخلو أعماقُها قطعاً من أوجه جميلة، وأهداف خيرة، وغايات سامية، وحكم خبيئة، تتوجه بكل ذلك إلى خالقها الكريم كما قدّر وهدى وأراد. فالكثير من الأمور التي تبدو-  في الظاهر-  مشوشة مضطربة ومختلطة، إن انعمتَ النظر إلى مداخلها طالعتك-  من خلاله-  كتابات ربانية مقدسة رائعة، وفي غاية الجمال والإنتظام والخير والحكمة.
النقطة الثالثة:
قال تعالى (قل إن كنتم تُحبّون الله فاتّبعوني يُحْببكُم الله) (آل عمران:31)
ما دام حسن الصنعة موجوداً في الكون، وهو أمر قطعي كما يشاهد، يلزم إذاً ثبوت الرسالة الأحمدية عليه الصلاة والسلام بقطعية يقينية بدرجة الشهود؛ لأن حسن الصنعة وجمال الصورة في هذه المصنوعات، يدلان على أن في صانعها إرادة تحسين وطلب تزيين في غاية القوة، وأن إرادة التحسين وطلب التزيين يدلان على أن في صانعها محبة علوية ورغبة قدسية لإظهار كمالات صنعته التي في مصنوعاته، وأن تلك المحبة والرغبة تقتضيان قطعاً تمركزهما في أكمل وأنور المصنوعات وأبدعها، ألا وهو الإنسان. ذلك لأن الإنسان هو الثمرة المجهّزة بالشعور والإدراك لشجرة الخلق، وأن الثمرة هي أجمع جزء وأبعده من جميع أجزاء تلك الشجرة، وله نظر عام وشعور كلي.
فالفرد الذي له نظر عام، وشعور كلي هو الذي يصلح أن يكون المخاطب للصانع الجميل والماثل في حضوره، ذلك لأنه يصرف كل نظره العام وعموم شعوره الكلي إلى التعبد لصانعه وإلى استحسان صنعته وتقديرها و إلى شكر آلائه ونعمه.. فبالبداهة يكون ذلك الفرد الفريد هو المخاطب المقرب والحبيب المحبوب.
والآن تشاهَد لوحتان ودائرتان:
إحداهم:دائرة ربوبية في منتهى الإنتظام وغاية الروعة والهيبة ولوحة صنعة بارعة الجمال وفي غاية الإتقان.
والأخرى:دائرة عبودية منوّرة مزهّرة للغاية، ولوحة تفكر واستحسان وشكر وإيمان في غاية الجامعية والسعة والشمول، بحيث إن دائرة العبودية هذه تتحرك بجميع جهاتها بإسم الدائرة الأولى وتعمل بجميع قوتها لحسابها.
وهكذا يفهم بداهة أن رئيس هذه الدائرة الذي يخدم مقاصد الصانع المتعلقة بمصنوعاته تكون علاقته مع الصانع قوية متينة، ويكون لديه محبوباً مرضياً عنده.
فهل يقبل عقلٌ ألاّ يبالي ولا يهتم صانع هذه المصنوعات المزينة بأنواع المحاسن ومنعم هذه النعم، المراعي لدقائق الأذواق حتى في أفواه الخلق، هل يعقل ألاّ يبالي بمثل هذا المصنوع الأجمل الأكمل، المتوجه اليه بالتعبد، وألاّ يهتم بمثل هذا المخلوق الذي هزّ العرش والفرش بتهليلات استحسانه وتكبيرات تقديراته لمحاسن صنعة ذلك الصانع، فاهتزّ البر والبحر انتشاءً من نغمات حمده وشكره وتكبيراته لنعم ذلك الفاطر الجليل؟ وهل يمكن ألاّ يتوجه اليه؟ وهل يمكن ألاّ يوحي اليه بكلامه؟ وهل يمكن ألاّ يجعله رسولاً؟ وألاّ يريد أن يسري خُلُقه الحسن وحالاته الجميلة إلى الخلق أجمعين؟
كلا! بل لا يمكن ألاّ يمنحه كلامه وألاّ يجعله رسولاً للناس كافة .
(ان الدين عند الله الاسلام) (آل عمران: 19)
(محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح:29)
*  *  *
أنّات بكاء لقلب آسٍ، فجر أيام اسر مليئة بالفراق والاغتراب
نسيم  التجلي يهبّ وقت الاسحار، فأنتبهى يا عيني في السحر،
واسألي المولى العناية، فالسحر متابة المذنبين،
فهب يا قلبي تائباً في الفجر مستغفراً لدى باب مولاك.
رحم الله سعيد النورسي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق