الجمعة، 29 يونيو 2012

كن عالما أو متعلما و لا تكن إمعة 3


بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أكرم المرسلين

سبحان الذي لبس العز وقال به، سبحان الذي تعطف بالمجد و تكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له،
سبحان ذي الفضل و النعم، سبحان ذي العزة و الكرم، سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه، سبحان دي الجلال و الإكرام.
و الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته، و دل كل شيء لعزته، و خضع كل شيء لملكه، و استسلم كل شيء لقدرته.
الحمد لله الذي سكن كل شيء لهيبته و أظهر كل شيء بحكمته، و تصاغر كل شيء لكبريائه.
أحمده و هو المحمود على كل ما قدره و رضاه، و أستعينه استعانة من يعلم أنه لا رب له غيره و إله له سواه، و أستهديه سبيل الذين أنعم عليهم ممن اختار لقبول الحق و ارتضاه. و أشكره و الشكر كفيل بالمزيد من العطايا و أستغفره من الذنوب التي تحول بين القلب و هداه. و أعوذ به من شر نفسي و سيئات أعمالي استعاذة عبد فار إلى ربه بذنوبه و خطاياه. و أعتصم به من الأهواء المردية و البدع المضلة، فما خاب من أصبح به معتصما و بحماه نزيلا.
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده المصطفى و نبيه المرتضى، رسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، أرسله رحمة للعالمين و محجة للسالكين و حجة على العباد أجمعين. 
فصلى الله عليه و على آله الطيبين الطاهرين و على أصحابه و أتباعه أجمعين.


في طور الإعداد

النفس البشرية كيان روحاني متلبس بالجسم، و هي تتفاعل بمكوناتها المادية و الروحانية و تتجاذبها طبيعتها الأرضية و ما يرتبط بها من شهوات و ميولات من جهة، ومن جهة أخرى، تتطلع تتطلع طبيعتها الروحانية النورانية إلى السمو و التزكية و التنعم بالقرب من الله. و كلما تغلب الجانب الأرضي الترابي انحدر الإنسان وفقد كرامته، و طغى فيه جانبه البهيمي الذي يبحث عن إشباع الشهوات و النزوات بإسراف و بدون قيد، أو طغى فيه جانبه السبعي الغضبي فيكون كالذئاب و الكواسر: غضب ، حب سيطرة و السيادة، سطو و قهر للعباد..أنانية..و إذا تظافر الجانبان كان أسوأ من حيوان الغاب...
و لقد أمدنا الله تعالى بالقلب الذي هو كياننا الواعي و جهزه بوسائل الإدراك و التفكر و التدبر و الفهم و الإرادة... و هي أدوات التحكم و التوجيه و العقل.. و القلب هو ميدان تفاعل البعدين الأرضي الترابي و الروحاني العلوي في الإنسان. و مهمة الإنسان أن يتحكم في طبيعته الأرضية و توجيهها لخدمة طبيعته الروحانية. و قد أوكل به الله تعالى ملكين كاتبين كما أوكل به قرنين: ملك و شيطان لكل منهما لمة، للملك لمة إلهام بالخير  و لمة الشيطان وسوسة بالشر و بعدم فعل الخير..
كلما وفق الإنسان و اجتهد في تزكية نفسه و الرقي بها، ازداد مجال تأثير الملك و ملائكة آخرين و هذه هي هداية التوفيقز و بالعكس، كلما أخلد إلى التراب و إلى متاع الدنيا و حب الشهوات، إلا و استحوذته شياطين الإنس و الجن و تحكم فيه الوسواس و أرهقه. الشيطان لا يتحكم فيك إلا إذا عطلت وظائف عقلك و تصرفت بدون علم..
اعلم أن عبادة الله لا تعني الانعزال و الرهبنة، فلا عبادة حقة إلا في خضم الحياة. الأمر يتعلق باختيار أساسي و مصيري: هل الدنيا كل شيء أم هي فرصة لكسب الآخرة؟ و يسلك المرء في حياته أحد المسلكين لا ثالث لهما، إما أنه يقتحم العقبة و يجاهد نفسه في الله و يزكيها، أو أنه يسلك المنحدر ليصير أسفل سافلين، و العمر طال أم قصر هو مسرح هذه المكابدة و هذا الابتلاء...





 كم هو جميل أن يكون الإنسان مسلما

 ألف الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله كتابا تحت عنوان "جمالية الدين :معارج القلب إلى حياة الروح" ، اخترت لي ولك منه ما من شأنه أن يجلي عن الفهوم كثيرا من التراكمات.."في زمن تصدرت فيه (جمالية الأشباح) على حساب (جمالية الأرواح) و غطت الأصباغ الكاذبة جمال الفطرة الصادق.. فنصر الناس التمثال على الطبيعة.. و ضلت الحقيقة في الظلمات.. و عطى دخان الحرائق على الحقائق.. فتعسرت الرؤية، و تداخل الحق بالباطل، و تشابهت طرائق السير على السائرين، و اختلت الموازين لدى كثير من الناس..."

لقد أتى على المسلمين حين من الدهر ضاعت منهم فيه قيم الدين، فتشوهت في قلوبهم و تصوراتهم مقاصده الجميلة. و النتيجة: أن انحرف بذلك في حياتهم منهج الدين.. لقد طغى على بعض المتدينين اليوم سلوك خطير أعوج، و هو اعتقادهم الشعوري أو اللاشعوري، بأن الدين الحق إنما هو الخشونة و الحزونة في القول و العمل.
إن الظروف التاريخية الحديثة و المعاصرة، و كذا الظروف السياسية التي أظلت العالم الإسلامي منذ بداية القرن الميلادي العشرين، و التي ما تزال تظله مع مطالع هذا القرن الجديد، قلت: إن هذه الظروف كلها أنتجت حالة (رد فعل) سيئة  غير متوازنة، لدى بعض المتدينين، سواء في فهم الدين، أو انتهاجه و سلوكه.
إن النار التي يحَرٌق بها المسلمون في العالم اليوم، جماعات و شعوبا- و خاصة أجيال حركة الوعي الإسلامي، و طلائع الصحوة الإسلامية – جعلت تعابير طوائف منهم، و أشكالا من ممارسة بعضهم تنفث رمادا و دخانا.. فاستغله الإعلام الغربي- و من هو على شاكلته من الإعلام العربي- استغلالا سيئا، لخدمة أغراضه المركزية. فرسم للدين صورة كاريكاتورية مفزعة ما أنزل الله بها من سلطان..إذ سلط الضوء على النقطة السوداء في المجتمع الإسلامي، و ضخمها تضخيما. و عرض الصورة الشاذة بدل الصورة الطبيعية. تماما كما يقع للوجه الجميل النابض بالجمال، إذا ركزت نظرك لا على هيأته الكلية، و إنما على موقع خالة ذات سواد غامق فيه حتى لا تكاد ترى منه غيرها، فتضخمت في عينك حتى استوعب نتوؤها في خيالك كل الوجه. فتحول الجمال فيه إلى صورة مفزعة. و لو نظرت إلى الخالة بحجمها الصغير في عرض الوجه لفاض الحسن المتدفق من كل تقاسيمه و معالمه عليها، و لرأيتها آنئذ جمالا في ذاتها. بل لرأيتها سرا من أسرار جمال الوجه و عينا من عيون الحسن المتدفق عليه. و لكن لعن الله العمى "فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور" الحج 46 . و رحم الله الشاعر العربي إذ قال:
و عين الرضى عن كل عيب كليلة *** و لكن عين السخط تبدي المساويا

و للأسف الشديد، فإن ذلك كان من الأسباب الكامنة وراء ضمور الوجه الجميل للدين، الذي هو وجهه الحقيقي المعبر عن تناسق قسماته و صفاء جوهره.
إن طوائف من أبناء جيل الصحوة الإسلامية اليوم، قد تخشبت قلوبهم و تشنجت أقوالهم، و تحجرت عيونهم، فكانوا مثلا للتدين الفج و السلوك القبيح و الذوق المتردي.. و قد استغل الإعلام المغرض هذه الحالات الشاذة المنحرفة. فكان أن انطبع بذلك في فهوم كثير من الناس، أن الدين هو أبعد ما يكون عن قيم الحب و الجمال. و كأنه ما أنزل إلا ليكون ملاذا "إيديولوجيا" لمرضى العقول و متخلفي الأذواق و الشعور.

ألا ما كان أحرى بهؤلاء أن يحافظوا للناس على رونق الدين، و رواء التدين، و يقدموا مثالا فنيا رفيعا للإيمان يشع بالجمال الآسر للقلوب، و يخرجوا للعالم نموذجا بهيا للسلوك يسحر العقول و يأخذ بالألباب، فيكون المسلم بذلك آية للجمال الرائق الرقراق، السارب أريجه في الأنفس و المجتمعات. و لا يصبغوها بأحواله النفسية التي تعاني من ضغط العالم الظالم و الطغيان العاني هنا و هناك. و لكن ..ما أسوأ ردود الأفعال المتشنجة.
لقد عورضت نصوص الكتاب و السنة معارضات غير متوازنة، و ضرب بعضها ببعض،  فشاهت الفهوم، و كانت الكارثة.. غابت نصوص التيسير و التبشير و سيطرت فهوم التعسير و و التنفير، فاختل التوازن في تدين كثير من الناس فهما و تطبيقا.
ساءت النماذج في هذا الزمن الأعور، حتى لقد شعرت كما شعر كثير غيري أننا في حاجة ماسة إل(تذكر) أن الدين جميل حقا.. و أن التدين إنما هو تمثل قيم الجمال و التزين بأنوارها في السلوك و الوجدان.
نعم الدين جميل..و أي شيء يكون جميلا في هذه الدنيا إن لم يكن هو الدين؟
إنما قدم القرآن (الإسلام) على أنه مثال الجمال الأعلى من كل الأديان. و إنما عرضه زين الدعاة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس- كل الناس- عرضا جميلا.. فكان المتدينون في زمانه عليه الصلاة و السلام و الأعصر التي بعده، قناديل تمشي على الأرض، و رياحين تملأ الزمان و المكان بأريج الجنة... فماذا وقع للناس اليوم؟
إن معاني الجمال في الدين من صفاء الروح و منازل الإيمان و أحوال الإحسان، لم يستفد منها جمهور كبير من أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة، لأسباب منها اشتهار نسبة بعض مفاهيمها و ألفاظها إلى المتصوفة. فكان أن زهد كثير من الناس فيها، بسبب ما خالط بعض كتبهم من خرافات و شطحات. و إنما هي عبارات قرآنية أو نبوية محضة، نعم ، ربما اكتسبت في سياق الاستعمال التاريخي دلالات منحرفة في بعض الأحيان، فيكون الواجب هو تحريرها منها، لا إلغاؤها و التنكر لها.
إنه ما ينبغي لذلك أن يعمينا عن جمال الدين، و إنما خاطبنا الله بالجمال، و أمرنا أن نرحل إلى منازله العليا، و نسير إليها سيرا لا يفتر، و لا ينقطع حتى يدركنا اليقين.. لا ينبغي للمؤمن الكيس الفطن أن تعميه غلطات بعض الناس-مهما قبحت- عن محاسن الدين ، فيقنع في دينه بظواهر الألقاب و يرمي باللباب.. إذا يكون من الجاهلين.. كيف و الجمال هو الدين..؟
إن الصحوة الإسلامية المعاصرة لفي أشد الحاجة إلى تربية ذوقية فنية، ترهف حسها بمواطن الجمال، الموجهة لكل شيء في هذا الدين عقيدة و شريعة.. و لقد انتبه السابقون إلى ذلك و انبهروا به فسارعوا إلى الالتحاق بقوافل المحبين.. و كان منهم مصنفون ذواقون، نبهوا إلى هذه المعاني، من أمثال الحسن البصري و الإمام المحاسبي و الإمام الجنيد، و ابن الجوزي، و الإمام عبد القادر الجيلاني، و الإمام ابن القيم، و الإمام أبي عبد الله الساحلي المالقي، و الإمام الشاطبي، و الإمام أحمد زروق، و غيرهم كثير. رحمهم الله.
الإنسان جميل.. بل هو أجمل مخلوق في الأرض. و تلك حقيقة طبيعية. ثم إن مصادر الدين في الإسلام تحدثنا أن الله قد خلق الإنسان في أجمل صورة و أحسنها.. و قارنْ بينه و بين سائر الحيوانات- وهي في غاية الجمال- ظاهرا و باطنا.. قال عز و جل:" الله الذي جعل لكم الأرض قرارا و السماء بناء و صوركم فأحسن صوركم و رزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" غافر 64 ، و صح عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله:" خلق الله آدم على صورته"، ثم جعل له الكون من كل حواليه جميلا، و حسنه تحسينا... عساه أن يكون في تدينه حسنا جميلا. قال تعالى:" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" الكهف7 . فالزينة الكونية مبعث وجداني للتحلي بالزينة الإيمانية ..
إن الناظر في هذا العالم الكوني الفسيح يدرك بسرعة أن الإنسان يعيش في فضاء فني راق، بيئة واسعة بهية، هي آية من الجمال الذي لا يبارى، بدءا بالأرض حتى أركان الفضاء، الممتدة بجمالها الزاخر في المجهول، تسير في رونق الغرابة الزاهي.. إلى علم الله المحيط بكل شيء.. و من ذلك قوله سبحانه: " و لقد جعلنا في السماء بروجا و زيناها للناظرين" الحجر16 . و جعل الأرض الحية تتنفس بالجمال؛ نعما لا تحصى و لا تنتهي.." قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" الأعراف 16 . و أرشد ذوق الإنسان إلى تبين معالم هذا لجمال في كل شيء:" و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تاكلون. و لكم فيها جمال حين تريحون و حين تسرحون، و تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة و يخلق ما لا تعلمون" النحل 5-8 .
ثم انظر إلى هذا جمال المتدفق كالشلال من الآيات التالية.. يقول سبحانه بعد الآية السابقة بقليل، في سياق المن بهذه النعم الجميلة الجليلة:" هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب و منه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع و الزيتون  و النخيل و الأعناب و من كل الثمرات. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. و سخر لكم الليل و النهار و الشمس و القمر. و النجوم مسخرات بأمره. إن في ذلك لآية لقوم يذٌكٌرون. و هو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا و تستخرجوا منه حلية تلبسونها. و ترى الفلك مواخر فيه. و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون. و ألقى رواسي أن تميد بكم و أنهارا و سبلا لعلكم تهتدون. و علامات و بالنجم هم يهتدون. أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكٌرون؟ و إن تعدوا نعمة الله  لا تحصوها. إن الله غفور رحيم" النحل 10-18 .
إنها صورة كلية شمولية، ذات ألوان و أنوار حية متحركة.. إنها بانوراما كاملة للأرض بتضاريسها و بحارها و أشجارها و أنهارها و أحيائها جميعا، ثم بفضائها الرحب الفسيح.. بما يملأ ذلك كله من حركة  الحياة، و النشاط الإنساني بكل صوره، مما أتيح له في هذه الأرض و فضاءها من المسخرات الحيوية. هذا كله هو قصرك الزاهي أيها الإنسان.. و مجالك الواسع، محاطا بكل آيات التسخير و كرامات التدبير، المتدفقة بين يديك بكل أنواع النعم و الجمال؛ لتصريف العمر كأعلى ما يكون الذوق و كأجمل ما تكون الحياة..
و في سورة الأنعام صور تنبض بجمال الخصب و النماء، جمال أرضي لا يملك معه من له أدنى ذرة من ذوق سليم إلا أن يخضع لمقام الجمال الأعلى..الجمال الرباني العظيم. قال جل جلاله: " و هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا و من النخل من طلعها قنوان دانية و جنات من أعناب و الزيتون و الرمان مشتبها و غير متشابه.انظروا إلى ثمره إذا أثمر و ينعه إن في ذلك لايات لقوم يومنون" الأنعام 99 . و يلحق بها قوله تعالى :" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها و من الجبال جددِ  بيض و حمر مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور" فاطر 27-28 .
فالصورة تبتدئ – في الآية الأولى  ثم التي بعدها –من لحظة نزول المطر، إلى لحظة خروج النبات و الشجر من التربة الندية، إلى مرحلة خروج الحب المتراكب في السنابل، و خروج القنوان، أي العراجين و العذوق الثقلة بالفاكهةن بجمالها و و بهائها، ثم ما يلامسها بعد ذلك من نضج و ينع، فتراها و قد تهيأت للقطاف، متدلية خلال خمائل الجنات و البساتين، ناظرة إلى الناس في دلال خلاب.. و الآيات لا تغفل الحركة الحية للألوان في تطورها من الخضرة إلى سائر ألوان النضج و الينع، مما يتاح للخيال أن يتصوره- توردا و اصفرارا و احمرارا و اسودادا..إلخ- في الزروع و التمور و الأعناب و و الزيتون و و الرمان... و نحوها، إلى ما يحيط ذلك كله، أو يتخلله، من ألوان الجبال و جددها، و هي: مسالكها أو خطوطها و التواءاتها المتشكلة منها، و هي غالبا ما تكون ذات انحناءات مختلفة الألوان، كما قال تعالى :" بيض و حمر"، إلى ما يزينها من غرابيب سود، و هي الصخور الناصعة السواد.. إلى حركة اللون المنتشرة هنا و هناك في الحيوان و الإنسان.. مما لا يملك المؤمن معه إلا أن يكون من الساجدين لمن أفاض على الكون هذا الجمال كله.. الجمال الحي المتجدد..و إنها لآيات تربي الذوق الإنساني على جمالية التوحيد و التفريد، مما تعجز الأقلام و الألوان على تجسيد صورته الحية النابضة.. و أي ريشة في الأرض قادرة على رسم الحياة؟
و إنني لو قصدت إلى استقصاء جماليات القرآن الكريم من السور و الآيات لجئت به كله.. فهذه عباراته الصريحة و إشاراته اللطيفة كلها.. كلها مشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإنساني حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية. فهل عبثا نص القرآن على جمالية الكون و النعم و الحياة؟ و هل عبثا نبه القرآن الحس البشري الإسلامي، و رباه لالتقاط دقائق الحسن و البهاء في مناظر الفضاء و الأرض و  الجبال و و الشجر و و النبات و البحار و الأنهار و و الأنوار و الأطيار؟

إن الله تعالى خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة الساحرة.. و أرسل الرسل بالجمال، ليتدين الناس على ذلك الوزان و تلك المقاييس.. و لذلك قال النبي محمد صلى الله عليه و سلم سيد الأتقياء و إمام المحبين: " إن الله جميل يحب الجمال" و فيه زيادة صحيحة:" و يحب معالي الأخلاق و يكره سفسافها".  مما يشير إلى أن الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلا و مضمونا، مبنى و معنى، رسما و وجدانا.

لقد كانت الآيات المذكورة قبل من سورة النحل و الأنعام و فاطر، توقظ الشعور الوجداني الإنساني، لينتبه إلى مواطن الخير و الحسن في نعم الله. و لذلك كانت مقاطع الآيات كلها تختم بصيغ التنبيه والاعتبار:" و إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.. لقوم يعقلون.. لقوم يذكرون.. لعلكم تشكرون.. لعلكم تهتدون"، بل بعضها كان صريحا في الأمر بالنظر الفني إلى نوابض الجمال في الكون و الطبيعة، كما في قوله تعالى الوارد قبل: " انظروا إلى ثمره إذا أثمر و ينعه. إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون" الأنعام 99 . ذلك أن تتبع جداول الجمال يقود إلى منبعه العظيم حيث الحق و الخير الصافي الرقراق. هنالك إذن يعب المتدينون من موارد الدين ما يتزينون به لربهم عبادة و سلوكا، فإذا القلوب تنبض بجمال الإيمان، حبا لا يخبو أبدا.. و ما ألطف قوله تعالى في هذا: " و لكن الله حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم" الحجرات 7 .. أن تحب الإيمان يعني أن الدين قد سكن هواك، فعلقت به كما يعلق المتيم بمحبوبه.. و الحب لا يسكن قلبا إلا إذا شاهد مناهج الجمال التي تسحر و تأخذ بمجامعه.. و لذلك قال: " و زينه في قلوبكم". فإذن كيف يصدر عن مسلم هذا شأنه قبح في التعبير أو قبح في السلوك؟ إذن يكون خارج معنى (العبادة) حينئذ و خارج معنى (الدين).. إذ الله لا يقبل إلا جميلا و لا يقبل إلا طيبا.. صدقت يا رسول الله: إن الله جميل يحب الجمال و يحب معالي الأخلاق و و يكره سفسافها.
فليكن الدين إذا سيرا إلى الله في مواكب الجمال : " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون" الأعراف 29-31 . و إنها للطافة كريمة أن يجمع سبحانه في مفهوم الدين من خلال هذه الكلمات النورانية بين جمالين: جمال الدين و جمال الدنيا : " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون".. ليكون ذلك كله هو صفة المسلم.
و لقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تربية صحابته على كل هذه المعاني. و كيف لا؟ و هو أول من انبهر بجمال ربه و جلاله، فأحبه حتى درجة الخلة؟ قال عليه الصلاة و السلام لأصحابه يوما:" لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة [أبا بكر] خليلا، لكن صاحبكم خليل الله" و صح ذلك عنه في سياق آخر قال عليه الصلاة و السلام: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل.. فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.. و لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا.. ألا و إن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم و صالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد.. إني أنهاكم عن ذلك". و كان يعلمهم كيفية سلوك طريق المحبة بعبارات و إشارات شتى ما تزال تنبض بالنور إلى يومنا هذا فانظر إن شئت، إلى قوله صلى الله عليه و سلم:" أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من اسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته و تحجيله"، و الغرة بياض في ناصية الحصان، و التحجيل بياض في يديه. فتلك من سيم الجمال في وجوه المحبين و أطرافهم، يوم يردون على المصطفى عليه الصلاة و السلام، و هي سيم " ليست لأحد من الأمم"، بها يعرفون في كثرة الخلائق يوم القامة كالدر المتناثر في دجنة الفضاء... هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار من أطراف المتوضئين الساجدينن رشحا لا يذبل وميضه أبدا.. فإذا النبي الكريم يميز جمال المحبين وسط الزحام واحدا واحدا...قال:" ما من أمتي من أحد و أنا أعرفه يوم القيامة. قالوا: و كيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: أرأيت لو دخلت صبرة [محجرا] فيها خيل دهم بهم، و فيها فرس  محجل أما كنت تعرفه منها؟ قالوا :بلى قال: فإن أمتي يومئذ غر من السجود محجلون من الوضوء" . فإي تذويق فني هذا للدين؟ و أي ترقية لطيفة للشعور هذه و أي تشويق؟
و لم يفتأ النبي صلى الله عليه و سلم يرقي هذا الذوق على مستوى التصرف و السلوك، ليس في مجال المعاملات فحسب، و لكن أيضا في مجال الدعوة والإرشاد، و ليس قوله صلى الله عليه و سلم: " إن الله تعالى رفيق يحب الرفق و يعطي عليه ما لا يعطي على العنف" و قوله:" يسروا و لا تعسروا و بشروا و لا تنفروا.."، و قوله أيضا في فرض الإحسان على المؤمن في كل تصرفاته و أعماله التعبدية و العادية: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء.." الحديث إلا نموذجا لعشرات الأحاديث المنضوية تحت هذا المعنى الكلي الكبير: الإحسان في كل شيء، في الشعور و الأخلاق و المعاملات و التصرفات و السلوك..

و من هنا- بعد هذه الشواهد النموذجية و المقارنات التقريبية- يمكن أن نخلص إلى أن أسس الجمالية في الإسلام تقوم على ثلاثة، هي: المتعة و الحكمة و العبادة. باجتماعها جميعا في وعي الإنسان و وجدانه يتكامل المفهوم الكلي للجمالية في الإسلام.
فأما الحكمة: فمعناها-هنا- أنه ما من (جمال ) إلا و له هدف وجودي و وظيفة حيوية، يؤديها بذلك الاعتبار. ذلك أنه ما من جمال في هذا الكون إلا و هو رسالة ناطقة بمعنى معين، هو حكمة وجوده و مغزى جماليته. فليس جميلا لذاته فحسب، بل هو جميل لغيره أيضا. فعند التأمل في كل تجليات الجمال في الطبيعة ، تجد أنها تؤدي وظائف أخرى هي سر جماليتها. من مثل الأهداف التناسلية الضرورية  لاستمرار الحياة في الكائنات من الإنسان و الحيوان و و الطيور و النبات...إلخ. ففي هذا السياق تقع استعراضات الجمال الخارق مما وهبه الله للكائن الحي؛ لإنتاج الشعور بالجمالية مما ينتج عنه أروع التعابير اللغوية و الرمزية، على جميع المستويات البشرية و الحيوانية والطبيعية عموما. كل على درجة طبقته الفطرية من الوعي بالحياة و الوجود الخِلقي. و ما ذلك كله في نهاية المطاف إلا ضربا من قوانين التوازن في الحياة، و استقرار الموجودات و الخلائق، تماما كما هو دور قانون الجاذبية في استقرار الحياة الأرضية، و توازن الأجرام و الكواكب في الفضاء. فالإحساس الجمالي بما فيه من عواطف جياشة لدى الإنسان مثلا، ما هو إلا وسيلة وجودية لاستمراره و توازنه. فال تعالى: " و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون. و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" الروم 20-21 .
و نفس الحقيقة الجمالية التي تراها في الطبيعة و الجبال و البحار و النجوم...إلخ، ما هي- رغم التصريح القرآني بجماليتها في مقاصد الخلق- إلا مخلوقات تؤدي وظائف في سياق التدبير الإلهي للكون، خلقا و تقديرا و رعاية. و من ذلك قوله تعالى على سبيل المثال :" يسألونك عن الأهلة  قل هي مواقيت للناس و الحج" البقرة 189 . و قوله تعالى :" هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدره منازل لتعلموا عدد السنين و الحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون"يونس 5 . مشيرا بذلك إلى أن وظيفة الأقمار و الأفلاك إنما هي إنتاج مفهوم الزمان، لتنظيم الحياة الكونية و الإنسانية في أمور المعاش و المعاد معا، أي في مجال العادات و العبادات على السواء. و كذلك ما ذكره الله تعالى من الوظيفة الجيولوجية و التسخيرية للجبال و الأنهار و المسالك، في مثل قوله: " و ألقى فيها رواسي أن تميد بكم و أنهارا و سبلا لعلكم تهتدون. و علامات. و بالنجم هم يهتدون" النحل 15-16 .
فكل المشاهد الجميلة في الحياة و الكون –كما عرضها القرآن الكريم- لا تخرج عن هذا القانون الكلي من حكمة الوجود و وظيفة الخلق.
و أما الركن الثاني للجمالية في الإسلام، هو المتعة و الإمتاع، سواء في ذلك ما هو على المستوى الحسي، أو ما هو على المستوى النفسي و الذوقي، أعني العاطفي الوجداني. و معنى ذلك أن الله تعالى جل جلاله خلق في الإنسان مجموعة من الحاجات، كحاجته إلى الطعام والشراب و اللباس، فكانت منها حاجة التمتع و  الاستمتاع و بالجمال، من حيث هو جمال. و من هنا سعيه الدائم إلى البحث عنه و الانجذاب إليه. و هذا صريح في كثير من الآيات و الأحاديث النبوية الشريفة. و من ذلك تلك الحقائق الكونية نفسها، التي ذكرت في سياق هدفها الوجودي، و حكمتها الخِلقية، هي عينها ذكرت لها أهداف إمتاعية في مساقات أخرى. قال تعالى مصرحا بفوائد الأنعام و البهائم الإمتاعية (الجمالية)، إلى جانب منافعها التسخيرية: " و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون و حين تسرحون. و تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة و يخلق ما لا تعلمون" النحل5-8 .
فقوله تعالى:" و لكم فيها جمال حين تريحون و حين تسرحون" ثم قوله بعد:" لتكبوها و زينة" دال بوضوح –بما في السياق اللغوي من حروف التخصيص و التعليل- قصد إشباع الحاجة الجمالية للإنسان إلى جانب حاجته البيولوجية إلى الطعام و الشراب، و سائر حاجاته المعيشية من الخدمات.
على هذا يجري ما ذكر في القرآن من مشاهد الجمال و التزيين، كقوله تعالى :" و لقد جعلنا في السماء بروجا و زيناها للناظرين" الحجر 16 . و قوله تعالى :" أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها و زيناها و ما لها من فروج" ق 6 . و قوله سبحانه :"إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب" الصافات6 . و قوله جل جلاله :" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" الكهف 7 .
و أما الركن الثالث: فهو العبادة. العبادة بما هي سلوك وجداني جميل، يمارسه الإنسان في حركته الروحية السائرة نحو رب العالمين، الله ذي الجلال و الجمال. و هذا من الوضوح بمكان بحيث إن النصوص التي ذكرت قبل كافية في إثباته و بيانه.ذلك  أنه هو الركن الغائي من خلق الجمال نفسه.. بل هو غاية الغايات من الخلق كله، و ما به من حقائق الزينة و الحسن المادية و المعنوية على السواء.
إن إشباع الحاجات الجمالية لدى الإنسان لو تأملتها تجدها لا تخرج عن معنى حاجة الإنسان الفطرية إلى التعبد و السلوك الروحي.. و لذلك فإن الإنسان الغربي إنما يمارس بإبداعه الجمالي ضربا من العبادة الخفية أو الظاهرة، التي يوجهها نحو الطبيعة حينا، و نحو ذاته أحيانا أخرى. إنه بدل أن يسلك بإنتاجه الجمالي مسلك التعبد لله الواحد الأحد، مصدر الجمال الحق، و غايته الطلقة في الوجود كله، ينحرف بها إلى إشباع شهواته أو أهوائه، ثم يمارس نوعا من الوثنية المعنوية أو المادية. و لذلك كانت فنونه الجميلة تميل إلى التجسيم و التشكيل، محكومة بمثل قوله تعالى :" و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار الم يروا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا اتخذوه و كانوا ظالمين" الأعراف 148 . و قوله سبحانه: "قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا و لكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك فعل السامري. فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي" طه 87-89 .
نعم إنه من السذاجة أن نقول بحصول (الوثنية التقليدية) في الجمالية الغربية، و إنما المقصود حصولها على المستوى النفسي.. إن الغرب يفرغ طاقاته الجمالية في الأشكال و الألوان.. تماما كما فرغ بنو إسرائيل من قبل زينتهم و حليهم في صياغة التمثال، تلك المحاولة الباطلة لتجسيد الإله، فكانت فيهم الوثنية البشعة التي سجلها القرآن..
فالفنان عندما يبدع لوحته أو سمفونيته أو قصيدته الأخيرة، يخر لها راكعا حينا، بما يحدث في نفسه من عُجب نرجسي و كبرياء، أو يتلوها على الناسكما تتلى التراتيل في المحارب و المعابد.. أو يعرضها عليهم كما يعرض (الكتاب المقدس) فتمجد ذات الإنسان بالباطل، بدل تمجيد ذات الله الخالق الحق للجمال.. و إذن فعوض أن تقوده مواجيده إلى عبادة الرحمن الذي أفاض على هذا العالم بأوصاف الجمال و الجلال، يتجه إلى تمجيد ذاته، و إلى تفضيل التمثال على الطبيعة.. و ما شابه ذلك من معاني التمرد على الله.. وتلك هي النتيجة التي آلت إليها بالذات مع الفلسفة الوضعية و الوجودية، حتى آخر صيحات الحداثة و ما بعد الحداثة..
من هنا أطر الإسلام الجمالية بمفهوم العبادة، حتى يصح الاتجاه في مسيرة الإبداع، و يستبصر الفنان بتواضعه التعبدي مصدر الجمال الحق، فيكون إبداعه على ذلك الوزان، و تتجرد مواجيده لتلك الغاية. و تلك هي (جمالية التوحيد). عسى أن يستقيم سير البشرية نحو نبع النور العظيم.. النور الذي "هو نور السماوات و الأرض" النور 35 .
و العبادة في الإسلام سلوك جمالي محض. و ذلك بما تبعثه في النفس من أنس و شعور بالاستمتاع. فالسير إلى الله عبر الترتيل و الذكر، و التدبر و التفكر، و الصلاة، و الصيام... و سائر أنواع العبادات إنما هو سير إليه تعالى في ضوء أسمائم الحسنى، بما هو رحمن رحيم، ملك ، قدوس، سلام...إلخ. و ليس عبثا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصف الصلاة بما يجد فيها من معانني الراحة الروحية، و يقول لبلال رضي الله عنه: " يا بلال أقم الصلاة...أرحنا بها..". و من العجيب حقا أنه عليه الصلاة و السلام ذكر متع الدنيا و جماليتها فجعل منها الصلاة، مع العلم أن الصلاة عمل أخروي لا دنيوي.. و ذلك قوله  الصريح الواضح: "حبب إلي من الدنيا النساء و الطيب، و جعلت قرة عيني في الصلاة..". و توجيه الحديث دال بسياقه على أنه عليه الصلاة و السلام أحب من الدنيا جماليات النساء و الطيب و مايوحي به  الأمران من جمال العواطف و المظاهر، و يقول في السياق نفسه: و جعلت قرة عيني في الصلاة.. أي كمال سعادتي و و جمال لذتي في صلاتي لله الواحد القهار؛ و ذلك لما كان يجده عليه الصلاة و السلام من أنس و راحة تامين على مستوى الوجدان الآني الدنيوي، بغض النظر عن المآلات الأخروية؛ لأن التعبير صريح في تصنيف الصلاة في هذا السياق ضمن محبوبات الدنيا.. و لقد أثر عن غير واحد من السلف و الزهاد تعلقهم بالدنيا لا من أجل ذاتها، و لكن من أجل ما يجدون فيها من لذة العبادة و جمالية السير إلى الله.. و هذا من أدق المعاني و ألطف الإشارات الوجدانية..
فالجمالية الإسلامية إنما تكتمل بهذه الأركان الثلاثة جميعا: الحكمة و المتعة والعبادة. و عليه، فإن السلوك الإسلامي انطلق متحليا بجماليته إلى جميع مناحي الحياة، الفنية و الإبداعية، و الثقافية و العمرانية و الأخلاقية و الاجتماعية. فكانت له في كل ذلك تجليات خاصة تتميز بخصوص المفهوم الإسلامي للجمال..

كلمة البدء في الإسلام هي : لا إله إلا الله.. و هي كلمة سر.. سر في غاية اللطافة و البهاء..نعم كل المسلمون يقولونها، و لكن القليل منهم يتذوقها حقا. ذلك أن انصرافهم إلى التصورات الكلامية، في مجال العقيدة، قد صرفهم عن فضاءاتها الجميلة ومواجيدها الجليلة.
إن عقيدة الإسلام لم تكن في القرآن الكريم ، و لا في السنة النبوية، إلا لمسة تربوية ذات أثر روحي عميق على الوجدان و السلوك. و قد كان المسلمون عندما يتلقونها بعباراتها القرآنية الجليلة، يتفاعلون معها تفاعلا عجيبا، إذ يتحولون بسرعة، و بعمق كبير من بشر عاديين، مرتبطين بعلائق التراب، إلى خلائق تنافس الملائكة في السماء.. و ما هم إلا بشر يأكلون الطعام و يمشون في السواق.. و لذلك حقق الله بهم المعجزات في الحضارة و التاريخ. إن الكيمياء الوحيدة التي كانوا يتفاعلون بها هي : لا إله إلا الله، لكن ليس كما صورها علم الكلام بشتى مدارسه و مذاهبه، و إنما كما عرضها القرآن آيات بينات و محكمات.
إن التقسيمات الكلامية للعقيدة الإسلامية، التي أملتها ضرورة حجاجية حينا، و ضرورة تعليمية حينا آخر، ليست ذات جدوى في عالم التربية الإيمانية، لخلوها من روحها الرباني، و سرها التعبدي، الذي لا تجده إلا في كلمات القرآن و أحرفه: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها. لا أقول (ألم) حرف و لكن ألف حرف و لام حرف و ميم حرف". ثم إن التعبير عن حقيقة الذات الإلهية لا يكون على كمال صدقه جلالا و جمالا إلا إذا كان بما عبر به عن ذاته سبحانه و صفاته. و ما كان للنسبي المحدود أن يحيط وصفا و علما بالمطلق غير المحدود. و من هنا كان التوقيف في مجال التعبير العقدي في الإسلام.
كثير من الناس يتكلم في العقيدة اليوم، و لكن قليلا منهم يتفاعل معها؛ لأن العلم الجدلي ما كان له أن يؤتي ثمارا قلبية، و هو قد انتج أساسا لإشباع رغبات العقل المماري، لا لإشباع حاجات القلب الساري. و قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب بالعقيدة افيمانية العقول، خطابا ينفذ من خلالها إلى القلوب، حيث تستقر بذرة تنبت جنات و أشجارا.
إن السر الذي تتضمنه عقيدة (لا إله إلا الله) و الذي غيرت مجرى التاريخ مرات و مرات، و الذي به صنعت الشخصيات التاريخية العظيمة في الإسلام، إنما يكمن في (جمالها).. الجمال ذلك الشيء الذي لا يدرك إلا بحاسة القلب.. إنه إحساس: (كم هو جميل أن يكون الإنسان مسلما..)، و دون هذا الإدراك اللطيف للدين، إدراكات أخرى من أشكال التدين، لا تغني من الحق شيئا.. لقد ضاع صفاء الدين و جماله السماوي في غبار التأويلات، و رسوم التقسيمات.. و قد ذم قوم( الكلام)، و لكنهم لم يدركوا أنهم في خضم الصراع المذهبي ردوا و قسموا (فتكلموا). فسقط عنهم بذلك بهاء الدين و جماله، و هم لا يشعرون.. أو على الأقل لم يترك ذلك في الأتباع لمسات الجمال، و أذواق الصفاء في السلوك الذي يصنفون به على أنهم (مسلمون).. فكانت التصورات في واد و التصرفات في واد آخر. و ذلك لعمري هو الخسران المبين: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" الكهف 99 .
إن القرآن الكريم و السنة النبوية يقولان لنا حقيقة جليلة عظيمة، لم يستطع أن يوصلها لنا علم الكلام: هي أن عقيدتنا جميلة..
و لكم هو مؤسف حقا أن يضيع هذا المعنى من تدين كثير من المسلمين اليومن فلا يرون في الدين إلا خشونة و حزونة.." و إن تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة" المنافقون 4 .هذا التخشب في الأقوال و الفعال ، الذي سيطر على تدين كثير من الناس اليوم، إنما كان لأسباب سياسية و اجتماعية  مختلفة، ليس هذا مجال بيانها. و لا يجوز أبدا أن تكون مسوغا للانحراف عن بهاء الدين و جماله..و إنما أنزله الله ليكون جميلا تتذوقه القلوب و تتعلق به الأنفس؛ فلا تستطيع منه فكاكا، فتسلم – بجذبه الخفي- لله رب العالمين.

رحم الله شيخنا و جازاه عنا أحسن جزاء.. لتحميل الكتاب اضغط هنا


آيات الجمال و الجلال في الآفاق و في الأنفس

































 






















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق